لا يختلف اثنان على أن العدوان الإسرائيلي الذي تواصل على غزة طيلة ثمانية أيام قد فشل فشلاً ذريعاً بفضل أداء المقاومة الفلسطينية التي فاجأت جنرالات إسرائيل برد قوي وحازم تميز بالدقة والعمق والصمود والصلابة والإرادة ولقد كان لهذا الأداء الفاعلي والاستراتيجي بالغ الأثر في إرغام إسرائيل بالتخلي عن عنجهيتها وغرورها وصلفها بعد أن وجدت نفسها قد تورطت في مغامرة ومواجهة عسكرية غير مضمونة العواقب, مما دفعها للاستنجاد بكل أصدقائها وحلفائها من أجل إخراجها من ذلك المأزق الذي حشرت فيه بعدوانها السافر والغاشم على قطاع غزة.
لقد تلقت إسرائيل ضربة موجعة ومؤلمة على يد المقاومة الفلسطينية التي تمكنت خلال فترة قصيرة من تطوير مهاراتها ووسائلها وأسلحتها, حيث أضحت القدرة الصاروخية للمقاومة أكثر دقة في اختيار وإصابة الأهداف, كما نجحت في ضرب العدو في مراكزه الرئيسية وأهدافه الحيوية على مسافات تصل إلى 80 كيلومتر كالاستخبارات والكنيست وغيرها من المواقع القريبة والبعيدة.. وبفضل هذا التطور الحاسم فقد تسنى للمقاومة أن ترسم خارطة جديدة لميزان القوى, تقوم على توازن الرعب أو الردع مع إسرائيل.
ومهما اختلف المحللون في تقييماتهم فإنهم يجمعون على أن اتفاق التهدئة الذي تم التوصل إليه بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل هو أول اتفاق يستجيب لشروط المقاومة وأول اتفاق يجبر إسرائيل على الانصياع للشروط التي تلزمها بوقف العدوان والامتناع عن استهداف قيادات المقاومة والقيام بفتح البوابات والمعابر والتوقف عن عربدتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني.
ومن هذا الدرس الفلسطيني يتأكد تماماً أن إسرائيل ما كان لها أن ترضخ صاغرة لشروط المقاومة لو لم تقابل بعملية ردع أفقدتها صوابها وكيف كان لها أن تقبل بتلك الشروط وهي من ظلت على مدى أكثر من ستين عاماً تملي شروطها على العرب وتطلب منهم التنازل تلو الآخر وتلك نتيجة طبيعية لضعف العرب وإخفاقهم خلال السنوات الماضية في التوصل إلى استراتيجية واضحة يحتكمون إليها في تعاملهم مع مجريات الصراع العربي الإسرائيلي وتطورات القضية الفلسطينية التي تحولت بفعل هذا الواقع من قضية جوهرية ومركزية ونقطة التقاء لجميع العرب إلى شعار فضفاض يستخدمونه للمزايدة على بعضهم البعض.
وفي الوقت نفسه فقد كان من الخطأ الكبير أن ظل العرب يراهنون على المواقف الدولية ودور القوى الكبرى في إقناع إسرائيل بالتسليم بخيارات السلام والتوقف عن حروب الإبادة التي تنفذها ضد الشعب الفلسطيني, رغم إدراكهم بأنه ما كان لإسرائيل أن تجرؤ على اقتراف مثل تلك الجرائم لولا التواطؤ الغربي معها وانحياز القوى الكبرى لها ولولا الدعم السياسي والمالي والإعلامي والعسكري الذي يقدم لها من تلك الدول من أجل مواصلة حروبها الظالمة والوحشية على الفلسطينيين.. وتتجلى آخر شواهد هذا النفاق الذي يكيل بمكيالين ويبرئ الجلاد ويدين الضحية في ما صدر عن الغرب من واشنطن حتى برلين من تبريرات للعدوان الأخير على غزة والذي راح ضحيته العشرات من الأطفال والنساء والأبرياء الفلسطينيين, فقد تم تكييف العدوان في خانة (الدفاع عن النفس) في الوقت الذي جرى فيه إسقاط حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم والرد على العدوان السافر الذي استهدفهم في عقر دارهم.
وفي ضوء هذه الازدواجية في السلوك والمعايير والأهداف, فمن غير المجدي أن نتساءل لماذا الدم الإسرائيلي غال على هؤلاء, فيما الدم العربي لديهم لا ثمن له ولا وزن؟ ولماذا تصر الدول الغربية على أن ألا ترى الأحداث إلا بنظرة إسرائيل ووفق منطقها؟ ولماذا تتلاشى المسافات بين هذه الدول عندما يكون الطرف الثالث هم العرب؟ ولماذا تستكثر علينا هذه الدول أن نشكو أو نصرخ من الوجع والألم الذي نصطلي بناره ونحن نرى العدالة الدولية مصابة بالعمى إذا ما ارتبط الأمر بالحق المشروع للشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل نيل حريته واستقلاله واسترداد أرضه من ربقة الاحتلال الغاصب؟.
إذاً لا معنى لهذه التساؤلات لمن يقرأ حقيقة موقف الدول الغربية من حرب الإبادة المتواصلة في غزة منذ عام 2008م, خاصة وأن هذه الحقيقة التي تبدو اليوم شاخصة ومجسمة وبلا رتوش أو تمويهات هي من تؤكد بجلاء واضح أن الآخرين وأياً كانت المصالح التي تربطنا بهم لا يتعاملون معنا من منظور تلك المصالح وإنما من تقييمهم للواقع العربي ودرجات تماسكه ومستوى فاعليته وحضوره وتأثيره وقوة نفوذه على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن هذا المقياس فلا نبدوا كعرب قد نجحنا في تقديم الأنموذج الذي يدفع الآخرين إلى تغيير طريقة تعاملهم معنا, بل على العكس من ذلك, فما قدمه العرب خلال العقود الخمسة الماضية هو أنموذج مشوه وممسوخ لا معالم له, حيث ظلت النخب الحاكمة منعزلة عن شعوبها, مما تسبب في أزمات ومآسٍ وكوارث متسلسلة ومتعاقبة استمرت تلاحق العرب طوال الفترات الماضية حتى فوجئوا بثورات ربيع عام 2011م التي حركت المياه الراكدة ووضعت العرب وجهاً لوجه أمام حاضرهم ولحظتهم التاريخية.. وتلك فرصة ينبغي أن لا تضيع على العرب إذا ما أرادوا الانطلاق نحو عهد جديد يعيد الاعتبار لهذه الأمة وتاريخها الحضاري ويمكنها من ارتياد المكانة اللائقة بها بين الأمم.
وإلى أن تحين هذه اللحظة فإن قدر فلسطين أن تظل تقاوم وتقدم التضحيات من دماء أبنائها الصامدين الذين لم يتركوا راية الحرية لتسقط من بين أيديهم.. وهم بهذا الصمود الأسطوري لا ينتصرون فقط لحقهم في الانعتاق والاستقلال, بل إنهم بذلك يدافعون عن ضمير السلام العالمي الذي تسعى إسرائيل إلى اغتياله وتجريده من مضمونه القيمي والأخلاقي والإنساني, بل إنهم بتصديهم للعدوان الأخير على غزة وبتلك الفاعلية والقوة قد أجابوا على السؤال الذي طالما طرحناه وهو كيف يمكن أن تتحرر فلسطين؟.
وبهذا الفعل البطولي فقد اقتص أبناء غزة لهذه الأمة ممن أراد أن يجعل منها عيباً من عيوب الإحصاء أو مجرد رقم من الأرقام الزائدة عن الحاجة.. وتلك ملحمة تدعو أولئك الذين مازالوا يراهنون على (اتفاقيات السلام) لتغطية عجزهم وقلة حيلتهم أن يراجعوا مواقفهم ويسارعوا للاعتذار لغزة وأبناء فلسطين الذين اثبتوا أن الضعيف لا يمكن أن يصبح حراً وأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا للذين لا يقرأون التاريخ.
علي ناجي الرعوي
عذراً غزة.. فقد تعلمنا الدرس!! 1996