يمر اليمن هذه الأيام بمخاض عسير ولحظة مفصلية فارقة قد نعرف نقطة بدايتها ولكن من الصعب معرفة نهايتها وعلى أي رصيف سترسو ويتمحور هذا المخاض المشوق في الكثير من مقاطعه في مزيج من الأزمات المركبة التي قد تحتاج أيضاً إلى مزيج مركب من الحلول والمعالجات تبتدعها عقول وطنية نظيفة تمتلك رؤية واضحة لطبيعة وحساسية الظرف الراهن والأزمات والمعضلات المستحكمة فيه.. عقول لا تتحكم في أصحابها النزعة الفردية أو المصالح الفئوية أو العصبية الحزبية الضيقة أو الأطماع الدنيوية الزائلة.. عقول تمتلك مران سياسي غير الذي نسمع ونمارس ومنهجية عقلانية تستلهم منها الحلول والمعالجات التي تمكن أبناء اليمن من تجاوز احتقاناتهم والانتقال إلى عصر جديد يشيع بالعدل والسلم الأهلي والشراكة والمواطنة المتساوية وقيم التطور والرخاء والنهوض الحضاري الشامل.
نعيد التذكير بكل هذه الجوانب ونحن نرى أن هناك من يسعى إلى تعطيل قاطرة الانفراج وعرقلة الخطوات المبذولة من أجل حلحلة التعقيدات التي تقف في طريق مؤتمر الحوار والذي يعول عليه رسم خارطة اليمن الجديد وتجنيب هذا البلد ما قد ينزلق به في اتجاه صراع عنيف ودموي ومحرقة كارثية ستأكل الأخضر واليابس.. إذا أنه وبالوقوف على نتائج اللقاء الذي جمع مؤخراً مبعوث الأمم المتحدة جمال بن عمر في القاهرة بعدد من الشخصيات الجنوبية التي يقيم معظمها في الخارج وكذا التصريحات الصادرة عن علي سالم البيض سنجد أن بعض الأطراف تتحرك في نطاق مخطط واضح ومكشوف يستهدف وحدة اليمن ولحمته الداخلية ومقومات استقراره ونمائه وتطوره.. ولسنا بحاجة للبحث عن دوافع هؤلاء أو للسؤال عن من يقف وراء هذا المخطط ومن يقدم الأموال الضخمة من أجل جلب المؤيدين والمناصرين لأهدافه المشبوهة؟ ولسنا بحاجة أيضاً للتساؤل حول كيف اتفق هؤلاء على تبني ذلك المشروع الشيطاني مع أن لكل واحد منهم اتجاهاً خاصاً ولا يلتقون فكرياً ولا سياسياً؟ وكيف نجح من يقودون هذا المخطط الكريه في استثمار بعض أخطاء دولة الوحدة في المحافظات الجنوبية للانتقام من الوحدة التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بتلك الأخطاء؟..
حيث والإجابات على تلك التساؤلات باتت معروفة لدى معظم اليمنيين وفي الصدارة منهم الغالبية القصوى من المحافظات الجنوبية الذين يتذكرون جيداً أن مشكلة الجنوب لم تكن في الوحدة بل في المفهوم التكتيكي الذي تعامل به بعض المتنفذين في الشمال والجنوب مع قضية الوحدة.. وفي هذه النقطة تحديداً فإن ما كشفت عنه وقائع كثيرة يثبت أن قيادات مثل علي سالم البيض وحيدر العطاس ومن لف لفهما قد سارعت إلى الترحيب بالوحدة وعملت من أجل الإعلان عنها وهي التي لا تؤمن بمدلولها الوطني والقيمي والحضاري بل أنها التي رأت فيها طوق نجاة للهرب من المصير الذي حل بقيادات الدول الاشتراكية عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وتهاوي المنظومة الاشتراكية، مما يدل على أن الوحدة كانت بالنسبة لهذه القيادات ليست أكثر من محطة مؤقتة يمكن التراجع عنها في أية لحظة ومن هذه القناعة، فقد اتجه البيض والعطاس خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت قيام الوحدة إلى افتعال المشكلات خاصة بعد أن شعرا بوقوعهما في مأزق الديمقراطية والتعددية السياسية التي تلازم قيامها مع إعلان الجمهورية اليمنية، مما دفع بهما إلى ممارسة الضغوط على المؤتمر الشعبي العام لإرغامه على القبول بتمديد المرحلة الانتقالية من 6 أشهر إلى 3سنوات وهو ما أعاق إجراء أول انتخابات حتى عام 1993م.. وهي الانتخابات التي جاءت نتائجها مخيبة لآمال البيض والعطاس وبعض قيادات الحزب الاشتراكي التي فوجئت بتصويت مجموعة من الدوائر الانتخابية في المحافظات الجنوبية والشرقية لمرشحين من خارج الحزب، مما أدى إلى غضب البيض وإعلانه الصريح عن رفضه (للاستقراء بالديمقراطية العددية) لتدخل البلاد في منعطف حاد وحرب أهلية ضارية صيف 1994م كان من نتائجها إعلان البيض الانفصال من طرف واحد مما استثار الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية الذين انضموا إلى الصف الوحدوي في مقاومة ذلك الإعلان وإسقاطه نهائياً.
ولأن البيض فعلاً قد تعامل مع قضية الوحدة من منظور مصلحي وأناني فإنه بمثل كان الأسرع في الموافقة على الوحدة كان الأسرع أيضاً في التحلل منها والتآمر عليها.. لينتهي به المطاف بالتخلي عن الهوية اليمنية واستبدالها بهوية مصطنعة اسمها (الجنوب العربي).. ولم يكن حال العطاس أحسن حالاً من البيض فيما يتعلق بالموقف من الوحدة، لعل ذلك هو ما دفع بالشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر إلى وصفه (بمهندس الانفصال) وهي صفة ليست فيها أي تجني على الرجل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما جاء في تصريحات العطاس الأخيرة والتي اعترف فيها بوقوفه ضد الوحدة قبل وبعد قيامها بل أنه الذي اعتبر في كلمته التي ألقاها في الاجتماع الأخير بالقاهرة مع المبعوث الأممي/جمال بن عمر الدخول إلى الوحدة عام 1990م أشبه بالدخول إلى (الزريبة).
وعليه فإذا كان علي سالم البيض يرفض اليوم المشاركة في أي حوار ما لم يكن هذا الحوار للتفاهم حول (فك الارتباط) وانسلاخ الجنوب عن الشمال، فإن حيدر العطاس كذلك يشترط أن يسبق مشاركته في أي حوار الاعتراف الصريح أولاً بحق شعب الجنوب بتقرير مصيره والتعامل مع القضية الجنوبية كقضية سيادية باعتبار أن الوحدة في نظره قد سقطت بنشوب حرب صيف 1994م وفي ذلك فلا فرق بين أطروحات البيض وشروط العطاس فكلها تدعو إلى الانفصال وكلها تسعى إلى تمزيق اليمن وإعادة تجزئته إلى كيانات قزمية.. لأن ما يهمهما هو العودة إلى مربع الزعامة والجلوس على كرسي القيادة حتى لو كان ذلك في حدود قرية أو عزلة.. وهو نزوع ساذج ومضحك ولا ينم سوى عن عقلية تسلطية متهورة.
ومن هنا فإن أهمية مؤتمر الحوار لا تكمن فقط فيمن سيمثل القضية الجنوبية في هذا المؤتمر بل في القدرة على تحديد مسارات الحوار والخروج منه بنتائج وحلول عملية أكان ذلك فيما يتعلق بالقضية الجنوبية أو بالوضع في صعدة أو أي من الأوضاع التي تشهدها الساحة اليمنية وكذا في كيفية ضبط إيقاع هذا الحوار بحيث لا تخرج تناولانه عن منظور المبادئ التي قامت عليها المبادرة الخليجية واليتها التنفيذية والتي أكدت على التمسك بوحدة واستقرار اليمن.. وسنظل نعلق الكثير من الآمال على نجاح المساعي الخيرة التي يقوم بها الأشقاء في سلطنة عمان ودولة الكويت في إقناع البيض والعطاس وغيرهما من القيادات الجنوبية في الخارج على المشاركة في الحوار والتخلي عن كل المواقف المتشددة، فاليمن يتسع للجميع ووحدته هي الضمان للاستقرار الوطني والإقليمي والدولي.
ولو كان لدى البيض والعطاس ذرة من عقل لأدركا أن الحوار سيمضي بهما أو بدونهما وأن الخاسر هو من سيتخلف عن هذا الحوار ويقف خصماً للوحدة وإرادة الشعب اليمني وحقائق التاريخ التي لا يمكن أن تنتقص منها أوهام من يسبحون عكس التيار.
علي ناجي الرعوي
القضية الجنوبية.. خيارات التوافق والممانعة !! 2024