شيء غريب وغريب للغاية لم أكن أتوقعه، ذلك أنني من بلد عربي وزياراتي السابقة كانت لبلدان عربية، حقاً لقد أثار فِيّ الدهشة حيث دق جرس الطائرة التركية إيذانا بأننا وصلنا فوق مطار عاصمة تركيا السياحية والاقتصادية (اسطنبول )فما هي إلا دقائق حتى هبطت الطائرة وظننت أني سأخرج إلى مطار ومدينة كمطار ومدينة أي دولة عربية لكني تفاجأت باني في عالم آخر وفي دولة كانت مقرا للخلافة الإسلامية العثمانية حكمت بلاد العرب وأفريقيا وأوربا واسيا لمدة ستمائة سنة وكان أخر الخلفاء هو السلطان عبدالحميد الذي قال مقولته الشهيرة (لن ينتقص من الإسلام شيء وأنا حي) وقد ضعفت الخلافة العثمانية حتى انقلب عليها مصطفى كمال أتاتورك في عام 1927م وأقام جمهورية تركية علمانية حظر فيها السياسة على الإسلاميين وأودعهم السجون وبنى جيشاً علمانياً أظهر عدائه للإسلاميين حتى جاء حزب العدالة والتنمية ونجح في الانتخابات وتولى مقاليد الحكم الفعلي لتركيا برئاسة رجب طيب اردوغان الذي خرج من السجن وخاض انتخابات أوصلته إلى رئاسة الحكومة حيث أن حزبه حكم وما زال يحكم منذ عشر سنوات بنى خلالها دولة مدنية حديثة راقية نهضت في شتى المجالات سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتنمويا ونحن هنا لسنا بصدد شرح تفصيلي لتاريخ الدولة العثمانية وما بعدها بقدر ما نحن بصدد بيان موجز عن تركيا (في نظر زائريها)، فقد وجدت نفسي في مطار اسطنبول بين كم هائل من سياح العالم بجنسياتهم المختلفة وبلغات شتى وهم بين وافد أو مغادر فقلت في نفسي الأمر يختلف هنا كثيرا وأثناء مغادرتي للمطار نحو المدينة وجدت نفسي في عالم راقي في منتهى الحضارة والمدنية والهدوء فوسائل المواصلات راقية جدا وحديثة ومتنوعة بين الترام والميترو والقطار والباص والتاكسي ورغم ذلك الجو الهادئ فلا تجد سائقا يسرع أو يعرض حياة غيره إلى الخطر ولا تسمع صوتا يزعج فالحدائق بأشجارها الخضراء والأزهار والورود منتشرة بشكل غير عادي بما في ذلك جانبي الشوارع وكذا أماكن متقطعة في وسط الشوارع وأمام المباني وجوارها إنها حقا مدينة نظيفة جميلة في شوارعها وفي سكانها أينما اتجهت داخل اسطنبول أو خارجها أو في غيرها من المدن الأخرى لا تجد ما يقلقك أو يكدر مزاجك أو يغير طبعك او يؤثر عليك ولو تأثيراً بسيطا فالبلد يعيش امن وأمان هدوء واطمئنان، فلا تجد مسلحاً قط ولا تسمع باختطاف سائح وأخذه رهينة كما يحدث في بعض البلدان العربية فالآثار الإسلامية والقلاع التاريخية والحضارة العثمانية تملأ اسطنبول وغيرها، فمن جامع السلطان احمد الشهير إلى أيا صوفيا إلى جامع السلطان سليم إلى جامع بايزيد إلى جامع السليمانية إلى جامع محمد الفاتح إلى مضيق البسفور إلى الكُبري المعلق الذي يربط بين اسطنبول الأسيوية واسطنبول الأوربية إلى بانوراما التي يستمتع السائح بمشاهدتها وتجعله يعيش حدث ومعركة فتح اسطنبول بقيادة محمد الفاتح ويكاد أن يكون التاريخ كله في اسطنبول وهو الآن يعيد مجده من هناك ولو كان العالم كله دولة واحدة لكانت عاصمته اسطنبول كما يقول المؤرخون فخلال رحلتي إلى تركيا لم أجد حادثاً مرورياً واحداً رغم التقدم والحداثة في وسائل المواصلات والكم الهائل من السياح فمن خلال زيارتي لبعض المستشفيات لم أجد مصاباً أو معاقاً بحادث مروري كما أن السائح يمر في طول البلاد وعرضها ولا يجد شحاتاً، فالكل يعمل إما في القطاع العام أو الخاص أو المختلط أو في الزراعة أو التجارة والشركات الاستثمارية وأثناء بقائي في اسطنبول قررت مغادرتها إلى محافظة أخرى هي اسكشهير حيث استغرقت رحلتي إليها ست ساعات تقريبا بواسطة احد باصات النقل الحديثة المعدة لذلك وعند تحرك الباص مبتدءً سيره في الرحلة ظننت انه يقلني بمفردي، لأني لم أسمع حركة أو صوتاً لراكب فجولت نظري داخل الباص فوجدته مليئا بالركاب والسائحين ولكن بعضهم مشغولون بمناظر الزراعة المختلفة والخضرة الجميلة التي على جنبتي الطريق كما انك تشاهد البحر تارة عن يمينك وتارة عن يسارك، هذا فضلاً عن الاستمتاع بمشاهدة المدن الحضارية والأرياف التي مررنا بها وهي تشبه المدن بفنها المعماري وتخطيطها الحضري وأحياناً لا تكاد تفرق بين ريف وحضر هذا بالإضافة إلى الجسور والانهار والنفقات المتعددة العملاقة التي مررنا بها كما أني رأيت بعض من في الباص يستمتعون بتصفح الانترنت أو مشاهدة التلفزيون للقناة التي يستمتع بها كل راكب وسماعته إلى إذنه حيث يوجد مع كل كرسي شاشة لذلك فالسائح وبحسب رغبته في استخدام الشاشة في التلفزيون أو تصفح الانترنت أو الألعاب المسلية وما هي إلا لحظات فوق الباص حتى جاء المضيفون بتقديم العصائر والشوكولاته والوجبات الخفيفة فظننت نفسي وكأني امشي في الخطوط الجوية (طيران) على الرغم من طول المسافة لم اشعر بتعب أو إرهاق أو اهتزاز وكأني متكئ وآخذ راحتي في استراحة على شاطئ مضيق البسفور أو بحر مرمرة أو البحر المتوسط وذلك لحداثة وسيلة النقل وتعبيد ورصف وزفلتت الطرق بمواصفات عالمية تخدم لعقود طويلة من الزمن لا حفر فيها ولا مطبات ولا يسحبه المطر والسيل وخلال رحلتي بين المدينتين المذكورتين لم أجد مكاناً مقفراً خالياً من السكان أو فيه قطاع طرق، بل شاهدت مناظر سياحية وزراعية خلابة وانهاراً وبحاراً وفناً معمارياً رائعاً..
انتهى بي السفر حتى وصلت مدينة اسكشهير التي بها جامعة الأناضول والتي على اسمها وكالة الأنباء التركية الإخبارية (وكالة الأناضول)فتجولت بالجامعة التي عمرها واحد وخمسين عاماً وقيل لي بأن طلابها وطالباتها يصلون إلى اثنين مليون يدرسون في التعليم المنتظم والتعليم المفتوح (عن بعد) من جميع أنحاء العالم والتعليم فيها مجانياً للأتراك بقرار من رئيس الوزراء اردوغان ولها استثمارات كثيرة من التعليم المفتوح فتقوم ببناء منشاءت حيوية كالجسور وغيرها ووجدتها جامعة رائعة الجمال مباني وحدائق وأندية ونوافير وملاعب واستراحات خاصة بالطلاب ومكتبة رائعة ومستشفى ضخم جداً يشتمل على مختلف الأقسام خاص بمعالجة الطلاب والطالبات مجانا ومن تطورت حالته المرضية أو كان المستشفى غير قادر على علاجها يتم إحالته إلى مستشفى آخر على حساب الجامعة فالبلد امن وهادئ وسياحي، فتصور لو أنك ضليت الطريق أو أردت مكاناً معيناً لا تعرفه من قبل وأنت في مكان خال من سيارات الأجرة فكيف سيكون حالك ؟ لكنك وأنت في تركيا لا تخاف شيئاً فما عليك إلا أن تأخذ أصبعك وتضغط على زر جهاز مثبت في الشارع على حامل له وما هي إلا لحظات حتى تقف إلى جانبك سيارة أجرة يقول لك سائقها (لبيك) وماذا تريد؟..
الحديث شائق عن تركيا وطويل جداً لكن الذي يعنينا هو كيف استطاع حزب العدالة والتنمية أن يقفز بالبلد إلى ما هو عليه الآن خلال عشر سنوات فقد كان سعر الليرة التركية متدني جدا وأصبحت اليوم تنافس الدولارالامريكي واليورو الأوروبي والوضع الاقتصادي مريح للأتراك ومع ذلك فلن تجد صورة واحدة معلقه بالشوارع لرئيس الوزراء اردوغان او لرئيس الجمهورية عبدالله جول فالثقافة السائدة لدى الأتراك هي عدم تمجيد الزعامات وإنما احترامهم بقدر ما يقدمونه للبلد وبمقارنه هذه المدة القصيرة التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية في تركيا بالمدة التي حكمت فيها الأنظمة المخلوعة في بلاد العرب لوجدت أن الأخيرة سعت بكل جهد إلى اكتساب الألقاب المختلفة كالسيد والزعيم كما سعت إلى تأبيد الحكم وتوريثه وتجهيل الشعوب وتخريب الأوطان وما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن اكبر شاهد على ذلك وما يحدث اليوم في سوريا الشقيقة من قتل للشعب وتدمير للمدن والقرى من قبل الطاغية بشار الأسد يندى له الجبين ويتألم له الضمير ويُذرف له الدمع.. لكن النصر قادم بمشيئة الله والتاريخ لا يرحم الظلمة والمجرمين.
أحمد محمد نعمان
تُرْكِيَا فِي عُيُونِ زَائرِيهَا !! 2137