مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلاح المصري وتزايد همومه ومشاكله، وتنامي صور استغلاله وإهدار حياته وإنتاجه تحت شعارات المراوغة التي أطلقتها الحكومة "تحرير الزراعة، التكيف الهيكلي، الارتباط بالسوق العالمي" وغيرها، وكذا الحصار المضروب حوله بفعل حزمة السياسات الحكومية المستوردة جعلته دائماً يعيش في خطر محدق ويفقد الأمل في المستقبل الذي ضاع بعد أن اغتالته العولمة المتوحشة، رغم أهمية القطاع الزراعي الذي يعمل فيه الفلاح المصري، حيث يعد هذا القطاع من القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الوطني المصري باعتباره قطاعاً مسئولاً عن تحقيق الأمن الغذائي، ومصدراً رئيسياً لتوفير مدخلات القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، كما أنه يستوعب حوالي 27% من حجم الأيدي العاملة في الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى دور الصادرات الزراعية في تحسين ميزان المدفوعات حيث تبلغ مساهمتها نحو 14.8% من جملة الصادرات السلعية غير البترولية.
ويعتبر تقدم الزراعة غاية في حد ذاته تسعى مصر إلى تحقيقه، على اعتبار أنها المورد الأول الذي تستمد منه ما يعينها على تحقيق برامج التنمية في قطاعات الاقتصاد المختلفة, ومن ثم فإن أي تقدم يلحق بها سوف يؤثر بطريق مباشر في الاقتصاد الوطني، ويساهم في تحقيق الرفاهية لكل المواطنين عامة والفلاحين خاصة.
وخلال القرن التاسع عشر شهدت مصر تقدماً في مجال الزراعة والري، فقد تمت إقامة العديد من مشروعات الري الكبرى، ما أدى إلى توفير المياه اللازمة التي ساهمت في زيادة مساحة الأراضي الزراعية من حوالي 2 مليون فدان عام 1813 إلى نحو 4 ملايين فدان عام 1952.. ومنذ يوليو 1952 حتى قبل منتصف ثمانينيات القرن العشرين تواصل الإهتمام بقطاع الزراعة وتطويره وتنميته، فهي بداية لظهور الإصلاح الزراعي في مصر، حيث كان الإقطاعيون يحتكرون غالبية الأراضي الصالحة للزراعة، في الوقت الذي كان يعيش فيه ثلثا سكان الريف المصري بلا أراضي ولا عمل وفى مستوى معيشة متدني.. في ظل هذه الظروف تم إصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الحد الأقصى للملكية الزراعية ووزع الفائض على الفلاحين الذين لا يملكون أراضي زراعية، كما بين أسس التعويض لمن تم الاستيلاء على بعض أراضيهم الزراعية، ونظم العلاقة بين المالك والمستأجر، وأنشأ التعاونيات الزراعية، وحدد حقوق العامل الزراعي.. وهذا يعني أن تطوير الزراعة المصرية لا يتعلق بعامل واحد كالتركيب المحصولي بل بعوامل اقتصادية واجتماعية ومؤسسية متفاعلة ويصبح أي حل جزئي قاصراً عن مواجهة تحدياتها والمتغيرات المحيطة بها لا يحقق الأمن الاجتماعي للمجتمع كافة وللفلاحين بشكل خاص.. وظل الحال كذلك لفترة استمرت قرابة الثلاثة عقود حيث بلغت مساحة الأرض الزراعية عام 1981 نحو 6.2 مليون فدان، وبلغ الناتج الزراعي الإجمالي 18.8 % من إجمالي الناتج القومي، وساهم القطاع الزراعي في دعم الدخل الوطني بنحو 20 % من إجمالي الصادرات.. ومع منتصف ثمانينيات القرن العشرين قررت حكومة مصر تحت ضغط أجندة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التوجه صوب اقتصاد السوق الحر، من خلال تبنى برامج الإصلاح الاقتصادي والتعديلات الهيكلية.. وكان قطاع الزراعة في مقدمة قطاعات الاقتصاد الوطني التي شهدت تغييرات كبيرة، أثرت بشكل مباشر على مدخلات ومخرجات الإنتاج الزراعي في مصر، ليس ذلك فحسب بل وعلى البنية الزراعية بشكل كامل، وبدأت الدولة توجهاتها في قطاع الزراعة نحو مزيد من التحرر الاقتصادي، بهدف ترك القرارات الاقتصادية الأساسية المتعلقة بالإنتاج والتسعير والتسويق للمنتج الزراعي لقوى السوق، واقتصر دور وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي على وضع الخطط التأشيرية، وإعداد الدراسات الاقتصادية والسياسات والتشريعات الزراعية، والإسهام في برامج التنمية الريفية، وتنفيذ البنية الأساسية الزراعية، ودعم مؤسسات البحث العلمي. إن استراتيجية الزراعة المصرية التي أعلنتها الحكومة المصرية خلال تلك الفترة وما بعدها ادعت أنها قامت على أساس تحقيق التنمية الزراعية، عن طريق تحرير القطاع الزراعي من التدخل الحكومي, وذلك في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة التي تستند على فلسفة التحرير الاقتصادي، وإطلاق قوى السوق في شتى جوانب الحياة الاقتصادية.. وتهدف هذه السياسة كما روجت لها الحكومة آنذاك إلى تحقيق الكفاءة الاقتصادية للموارد الزراعية، بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل الوطني بين القطاع الزراعي والقطاعات الأخرى، ما يؤدى إلى تحسين مستوى معيشة الفلاحين اقتصاديا واجتماعيا.. لكن شيئاً من هذا لم يحدث حتى الآن، وقد أوشك العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أن ينتهي وقرابة 40 مليون فلاح فيما يتعلق بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية لا زالوا يعانون من هذه السياسات الفاشلة، التي جرت عليهم الوبال والخراب، وأدت إلى انحدار السواد الأعظم منهم تحت خط الفقر المدقع، ويعيشون على أقل من دولار في اليوم الواحد، كذلك أفرزت هذه السياسات - التي لم تراع بين ثناياها البعد الاجتماعي قط، وتركت صغار الفلاحين يواجهون غول الرأسمالية بمفردهم في ظل حيازات قزميه، وبدائية أدوات الإنتاج الزراعي، وتخلف نظمه – أوضاعاً صحية متردية، وانتهكت معها حقوق الفلاحين الصحية، فالصحة حق أصيل من حقوق الإنسان بموجب المعاهدات الدولية - التي صادقت عليها الحكومة المصرية، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من قانونها الداخلي وفقا للمادة 151 من الدستور - وليست منحة من الحكومة لمواطنيها، كما كفل الدستور المصري في مادتيه 16، 17 الحق في التمتع بصحة جيدة. إن الحق في الصحة لا يقتصر على خدمات العلاج والوقاية، بل يمتد ليشمل توفير الغذاء الآمن والمياه النقية والصرف الصحي والبيئة النظيفة، كمفهوم أوسع للحق في الصحة الذي يعتبر بشكل أساسي امتداد للحق في الحياة.
أما ونحن الآن قد وصلنا على أعتاب مرحلة حاسمة من تاريخ مصر ستشهد انتخابات برلمانية العام القادم 2010 تليها انتخابات رئاسية عام 2011م، في ظل هذه الحالة المحتقنة لدى كل فئات الشعب المصري. ونظرا لكون الفلاحون يمثلون الشريحة الأكبر في المجتمع المصري (نحو 57.5% من جملة السكان)، وعلى عاتقهم تنهض الأمة كلها.. ولذا ينبغي أن تكون المرحلة القادمة شعارها رد الاعتبار للقطاع الزراعي المصري، لكي يسهم في تحسين أوضاع الفلاح في كافة المجالات، وأن يكون الفلاح في قلب أولويات سياسات أي حكومة قادمة، فمن لا يقدره فهو لا يقدر قيم الأصالة المصرية، فالفلاح هو أساس تقدم المجتمع كله.
لقد كشف تقرير حقوقي صدر مؤخراً عن انهيار كافة خدمات البنية التحتية بالمناطق الريفية، وزيادة معدلات البطالة في بعضها بنسبة بلغت أكثر من 60%، وتدنى مستوى المعيشة بين الفلاحين إلى أدنى درجاته، وارتفاع معدلات الفقر بنسبة بلغت أكثر من 75%، وانتشار معدلات الجريمة خاصة جرائم السرقة والنصب بنسبة تفوق الـ85% مقارنة بعام 1980، وارتفاع حاد في معدلات تلوث البيئة الريفية نتيجة الاستخدام المفرط في المبيدات المهجورة والمحظورة والمتدهورة، الأمر الذي أدى إلى تفشي أمراض الفشل الكلوي، والسرطان وغيرها، إضافة إلى انهيار في منظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي كانت تمثل الركن الحصين، والأداة الفاعلة من أدوات العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الريفي. وعزوف شديد عن استخدام بعض أدوات الضبط الاجتماعي لحل الخلافات والنزاعات الداخلية التي كانت تنشأ بينهم، وفى ذات الوقت كانت تصون وتحفظ استقلالية المجتمع الريفي، والعلاقات الاجتماعية المباشرة بينهم، بعيداً عن المحاكم الرسمية.
والسؤال الذي بات يطرح نفسه الآن بين ضحايا سياسات الحكومة المصرية من الباحثين والخبراء الشرفاء الذين تعلموا واجتهدوا ومستعدين للمساهمة بعلمهم لإصلاح ما أفسده هذا النظام شريطة منحهم الفرصة لإثبات ذاتهم وقدراتهم في التعاطي مع ذلك الواقع الأليم من أجل تغييره وإحداث نهضة حقيقية، يمكن عن طريقها تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والكساء وتمنح الفلاحين أفضل فرص الحياة الكريمة الآمنة وهو: هل هذه السياسات الزراعية التي أقرتها الحكومات المصرية المتعاقبة قادرة على تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الأليم الذي يعيشه الفلاح في مصر.. حاضره ومستقبله؟
كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
الفلاح في خطر.. نهبوا حاضره وأضاعوا مستقبله 2457