إن غالبية القوى الوطنية بمختلف ألوانها بدون استثناء إلا من يمتلك مشروعاً لا تنطلق من رؤية واضحة، وبذلك صارت غالب أفعالها ردود فعل تلقائية للأحداث التي تتقاذفها والأزمات التي تفاجئها.
وانعكست ردود الأفعال على الأمة فصارت عاجزة عن الوحدة والعمل الجماعي المشترك، وصار الآخرون يتصرفون بمصيرها دون أثر لها في تحديد هذا المصير أو تشكيله.
ولهذا صار من الضرورة والأمانة على قيادات الأحزاب والجماعات أن تجدد استراتيجيتها وأهدافها ومناهجها بما يواكب المتغيرات وجعل تنمية فاعلية قياداتها في المجتمع لا لجماعاتهم أولاً، ليكونوا قادرين على القدرة على أخذ زمام المبادرة.. القدرة على التحديد العقلي للهدف وتطبيقاته.. إتقان ترتيب الأولويات في برنامج العمل.
والهدف الثاني تنمية فاعلية المجتمع ليكون قادراً على تبادل التعاون مع الغير ويكون شعار القيادات والمجتمع أربح ويربح الآخرون.. افهم الآخرين ثم أدعهم يفهمونني.. التعاون الجماعي مع الكل.. والهدف الثالث: توفير أجواء الديمقراطية السليمة وإفراز القوى القادرة على دفع مسيرة التجديد وتحقيق صفة التوازن لتنازع القوى المحافظة والقوى المتطرفة.
إن على الجميع أن يعلموا أننا نعيش في عالم انهارت فيه الحدود الثقافية والفكرية والاجتماعية بفعل وسائل الاتصال والمواصلات التي تتطور كل يوم، إننا إذا لم نقم بمراجعة جذرية شجاعة مبصرة، وحركة تجديدية واعية مصلحة لثقافاتنا ومفاهيمنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا وولاءاتنا وشبكة العلاقات فيها، ونخطط لتطويرها تطويراً يحقق لها المعاصرة ويحفظ لها الأصالة، ويواكب متغيرات ما بعد ثورات الشعوب.. إن علينا أن نعترف أننا نعاني من أمية في مختلف المؤسسات والجماعات وخاصة الحركات التي تحصر تطبيقات فروض الإسلام وسننه في ميادين الأشكال دون الأفكار والأعمال وفي حياة الأفراد دون الجماعات.. إننا بحاجة إلى محو الأمية.
وأهمية هذا المحو أن المعنى الشامل للأمية لا يقتصر على عدم القراءة والكتابة، وإنما الأمية درجات وفروع، تبدأ من أمية القراءة والكتابة ثم تتدرج في مستويات المعرفة وتتوزع في ميادينها فهناك أمية الفهم والتفكير، وأمية التنظيم، والأمية السياسية، والأمية العسكرية، والأمية الاقتصادية وهكذا.. والقرآن لا يقتصر في إطلاق الأمية على الذين لا يقرأون ولا يكتبون، وإنما أطلقها أيضاً على من يقرأون ولا يفهمون، وذلك عند قوله تعالى ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) ( البقرة 78) .
ولقد فسر ابن تيمية هذه الآية فذكر أن الأميين هنا هم الذين يتلون القرآن بلا فهم ولا دراية، وأن معنى قوله تعالى: (إلا أماني) أي تلاوة بلا فهم. ولذلك قال تعالى : (لا يعلمون الكتاب) ولم يقل :لا يتلون.. ويضيف ابن تيمية أن سوء الفهم هذا هو الذي جعل الخوارج يخرجون ببدعة تكفير المسلمين، وأن صحة الفهم هي التي ميزت منهج السلف من أهل القرون الأولى.
وهذا النوع من الأمية لا يقتصر على الأفراد وإنما يصيب الثقافات التي تحول دون حرية التفكير والتعبير والاختيار، الأمر الذي يؤدي إلى إعاقة القدرات العقلية وعادات التفكير والشعور عن النمو وبلوغ درجة النضج، وبذلك يستمر الفرد في الأمية الثقافية خلال مراحل النضج الجسدي في ميادين الحياة المختلفة وإن تخرج من الجامعات وحصل على الشهادات, وتتجلى هذه ـ الأمية الثقافية ـ في أمرين: الأول؛ القصور عن فهم الواقع والبيئة المحيطة.. والثاني؛ اضطراب نظام القيم الموجهة لشبكة العلاقات الاجتماعية بحيث تهبط القيم الفكرية إلى أدنى درجات سلم القيم، بينما تحتل قيم القوة والثرثرة والجاه والنسب والفوضى ونهب المال العام والتعصب أعلى هذا السلم . ونتيجة لذلك لا يفيد ـ في هذا اللون من الثقافة الأمية ـ إقامة مؤسسات التعليم والطباعة والنشر والثقافة والإعلام ، لأن ثمارها من الشهادات والمؤلفات والدراسات تخدم " أهداف " الأمية الثقافية ، أي هي تبقى مجرد حلى اجتماعية وحضارية يتباهى بها الأفراد والعصبيات الفرعية ويتنافسون ، ويحاكي بها المجتمع غيره من المجتمعات الأخرى، أما " محتواها " فيكون إما تقليداً للآباء الماضين أو الغرباء المعاصرين . وأما "نتائجها " فتكون العقم الاجتماعي وعدم الفاعلية لأنها لا تتحول إلى تطبيقات ومؤسسات، بل تلفى مجد شعارات ويافطات.
وإلى هذا النوع من التعليم والثقافة يشير دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) . ولقد عرّفت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم الأمية قالت : إن الأمية المعاصرة هي العجز عن التفكير العلمي والعجز عن تعلم الجديد أي أن الأمي الجديد هو من قعد عن البحث والدراسة واعتمد على ظنونه ، ولم يتبع المنهج العلمي في سياساته وممارساته وبهذا التعريف يكون هناك الفرد الأمي ، والجماعة الأمية ، والحزب الأمي ، والحكومة الأمية ، والدولة الأمية ، والشعب الأمي ، والأمة الأمية وهكذا.
ومازلنا نحن العرب ـ الذين وصفنا القرآن الكريم بـ "الأميين"- نعتمد منهج الأمية في إداراتنا لمؤسساتنا وسياساتنا لأننا مازلنا " نظن أن " للأحداث مسارات وللمشروعات نتائج كتلك التي نشتهيها، وما زالت كتبنا ومقالتنا وخطبنا ومحاضراتنا تقفز من خطوة الإحساس بالمشكلة إلى إصدار الحكم وتصور النتائج دون المرور بخطوات تحديد المشكلة وجمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها وتقييمها ، دون الرجوع إلى علماء مختصين موثوقين ومصادر أصلية محددة.
وهذا هو الفارق الرئيسي بيننا وبين المجتمعات المتقدمة. ففي بلد ـ كالولايات المتحدة مثلاً ـ هناك عشرات الألوف من المختصين الباحثين الذين يقيمون في مراكز البحوث وخزانات الفكر المسماة ثم يلقون نتائج دراساتهم وأبحاثهم شهريا في أماكن العمل المختلفة على ذوي الاختصاص من الإدارات والشركات والقيادات العسكرية والسياسية بمن فيهم أعضاء الكونجرس وإدارة الرئيس قبل أن يقدم هؤلاء على أي تخطيط أو يتخذوا أي قرار!!.
يقول د. ماجد عرسان: إن التحدي الكبير الذي يواجه المجتمعات البشرية على المستويين الإقليمي والعالمي ليس هو ـ خطر الحروب وأسلحة الدمار الشامل وانتشار الإرهاب كما يشاع ـ وإنما هو خطر الزلازل الجارية في ميادين القيم . وسوف يشهد القرن القادم اختفاء ثقافات وذوبان مجتمعات من خلال عمليات الانصهار والتحليل والتركيب الجارية في ميادين القيم . والمجتمعات التي تتحمل فيها نظم التربية ومؤسسات التوجيه مسؤولياتها إزاء الزلازل الجارية في ميدان القيم سوف تواكب مجرى الحضارة المستقبلية وسوف تسهم في تحسين كيان الإنسان ونقله من التخلف إلى الرقي . أما المجتمعات التي تترك للاضطراب القائم في ميدان القيم "سيسيرها غيرها"، ويتحكم باتجاهاتها دون أن تتحكم به، أو تكتفي بالسلبية والآبائية فسوف ينتهي بها هذا الاضطراب إلى إحدى مصيرين : إما الإرتداد إلى عصر الكهوف وحياة الغابة ، وإما الذوبان في بوتقة التفاعل الجاري بين القيم العالمية المختلفة .
إن ما يجري في عالم اليوم هو عمليات مخاض وولادة ، وعمليات موت ودفن : ولادة الذين يتهيأون للحضارة العالمية الجديدة ويعدون بها عدتها ومتطلبات الحياة فيها ، وموت المتشبثين بالعصبيات القديمة الرافضين سماع نداء الطور العالمي الجديد ، المتعامين عن رؤية مقدماته ، وعلى الذين يتألمون ـ في الأقطار العربية من آثار العمليات الجراحية في كياناتهم الاجتماعية ويندبون العدل الدولي ويأخذون على الجراحين الدوليين الكيل بمكيالين اثنين ، أن يعوا حقيقة الحقبة التاريخية الجديدة وعدتها ومتطلباتها . وأنهم لن يستطيعوا الإفلات من عمل السنن التاريخية وقوانين الحقبة العالمية القائمة ؛ فإما أن يحققوا الوحدة قولاً وعملاً ، والحرية تطبيقاً وإدارة ، والعلم تفكيراً وتقنياً ، والانتماء الإسلامي المواكب للمعاصرة حياة ومنهاجاً ، وبذلك يبقون في المسار التاريخي ويدخلون الحقبة التاريخية الجديدة وأما أن يستمرون في خداع أنفسهم والتحلي بالأماني ينتظرون المهدي المنتظر يحل مشاكلهم وبذلك ينزلون بأنفسهم تطبيقات الحتمية التاريخية ويخرجون من التاريخ أفراداً وجماعات ، وإن سبق المتقولون قاتليهم في الخروج !! وسوف يستمر سيرهم في الحياة البرزخية إلى حيث يثور التلاوم بين " الأكثرية المستضعفة " ، والنخبة المتسلطة باسم الدين أو الوطن" كالتالي : (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين.. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين.. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) {سبأ :31ـ33} والله الموفق.
محمد سيف عبدالله العدينى
ضرورة المراجعة والتجديد من النخب لمواكبة الثورات العربية 1835