تحْضرني الآن ملامح " زولا" وهو يستعد لكتابة رسالته الشهيرة " إني أتّهم " " J`accuse "التي وجّهها لرئيس الجمهورية سنة1889، في الدفاع عن الضابط دريفوس Dreyfus الذي اتّهم زوراً بتواطئه مع الألمان والتجسس لصالحهم.
أتساءل في ماذا كان يفكّر وهو ينكفئ على ورقة بيضاء كان يعرف جيداً أنها يمكن أن تودي إلى المنفى وربّما الموت؟ ما هي هذه القوة الاستثنائية التي تدفع برجل مثله لأن يذهب نحو الخطر والقلق؟ أعتقد أن الذهاب نحو الحقيقة أو على الأقلّ ما نراه حقيقة هو العامل الحاسم في عملية مثل هذه، الرجال الإستثنائيون وحدهم يذهبون نحو هذه المخاطر، لأنه عندما كان زولا يصرخ بأعلى صوته، كان آخرون في موقع الارتباك، أندري جيد Andre Gide وحتى مارسيل بروست Marcel Proust وغيرهم بقوْا في أفق التساؤل قبل أن تدفعهم الأحداث المتعاقبة للانخراط في البحث عن الحقيقة مثلما فعل زولا قبلهم بسنوات. ماذا يفعل الكاتب في نهاية المطاف، سوى البحث المحموم عن الحقيقة.
الحقيقة التي يراها بصدق، قد يخطئ ويتحمّل تبعات خطئه مثلما فعل دْرؤو لاروشيل D. LaRochelle عندما رأى في النازية جوانب حسنة، وهو الشخصية اللاّمعة وعندما اكتشف فداحة الانحراف وضع حدّاً لحياته بنفسه ولكنّ الخطأ يناهض الصمت، فالصمت ليس من فضّة في الظروف القاسية، ولكنه من أردأ أنواع المعادن التي يمكن أن نتخيّلها. الحياة تعلّمنا الكثير في صوغ هذه الحقيقة وإعطائها هوية تشبهنا وفي أحيان كثيرة تناقضنا، ومع ذلك نذهب نحوها ونتبنّاها وندافع عنها وعن ابداعها في المؤسسات القاهرة للإبداع والخلق:الدينية، والاجتماعية والعسكرية
من هنا تصبح الكتابة مجموعة من الجراحات المتواترة، وكلما حملنا قلماً، ازددنا غوراً في مجاهيلها واقتراباً حارقاً منها وتريّثاً أمام مشاقها، والدي لم يعد ولكن أختي التي ظلت تنتظره بجدّ أكثر، لحقت به ولم تستطع أن تتحمّل غيابه المزمن. يمكننا أن ننتظر عزيزاً قرناً من الزمن، ونحن نحسب الأيام وكلما صارت المسافة التي تفصلنا عنه ضئيلة، ازدادت سعادتنا، لكننا عندما نفقد أمل اللقاء نخسر الحياة ونفضل أن نختصر كل شيء في نهاية مستعجلة.
الثورة هي التي صفّته لأنه كان من المطالبين المحمومين بضرورة الفضل بين المؤسسة المدنية الممثلة في الحكومة المؤقتة والمؤسسة العسكرية الممثلة في قيادة الأركان L’ETAT MAJOR.. شيء من العبثية؟ الجنون واللا عقل؟ هذه الأسئلة تجعل من الحقيقة التي تتوخاها الكتابة مستعصية وصعبة وتجعل من طريقها، معابر مستحيلة. الحقيقة ليست مسطحة، وليست خطّـاً مستقيماً والكتابة الكبـيرة هي التي تدخل هذه التعرجات وتتجاوز ما يمكن أن تشي به الحقيقة في تمظهراتها الخارجية فقط. لم تكن رواية "ضمير الغائب " إلاّ رغبة أخرى في التمادي نحو جرح الحرب للخروج منه. كانت حقيقة أخرى على الصعيد الاجتماعي قد بدأت تفرض نفسها، فقد بدأ أثرياء الحرب يكشفون عن هوياتهم المختلفة وينشئون مزيداً من خطابات الانفتاح مع الحفاظ على الخصوصية الاشتراكية الوطنية. إلى اليوم لم أفهم هذه الخصوصية. المعادلات التي كنت أفهمها بسيطة بلد نشأ على خيارات اقتصادية كانت وراءها البيروقراطية الثقيلة التي عشعشت في المؤسسات، أفرغت كل القيم التي مستها من عمقها..
حوّلت الاشتراكية في الخطاب إلى رأسمالية متوحشة في الممارسة. والليبرالية المفتوحة إلى قحط ثقافي وممارسة بدائية في الربح لتنتهي إلى زمر مافيا، تتقاسم اقتصاد البلد وخيراته وحولت الدين بوصفه قيمة متعالية مشتركة للخير، إلى حالة توحّش يصبح فيها المختلف عدوّاً وجبت تصفيته ومحوه.
الاشتراكية التي ينتصر فيها " العامل " دائماً ضد صاحب المؤسسة ويجبره على الانصياع للمطالب النقابية إلى فتوحات " الشخصية الليبرالية " العقلانية والمتفتحة إلى حكمة وتفقه " البطل المتدين، الإسلامي " في بعض الأعمال الأخيرة. ماذا بقي من وراء هذا التمجيد؟ لا شيء سوى الحقيقة العارية التي لم يستطع الأدب أن يقبض عليها في الوقت المناسب لأنه لم يطرح الأسئلة الصعبة التي تجعل من الأدب ليست فقط إجابات جاهزة ولكن ديمومة من المساءلات التي كثيراً ما تفضي إلى بعضها البعض بدون القدرة على ترتيب أجوبة صحيحة ومقنعة. لقد ارتبك كل شيء، والكتابة وحدها قادرة على فهم حالة الارتباك هذه شرط أن لا تظل رهينة المظاهر الأولى للحقيقة الموضوعية.
ولهذا فالكتابة لا تنشأ في الفراغ ولكنها كذلك لا تنشأ داخل حقيقة منجزة ومغلقة.. لم تكن هناك قدرة كافية لالتقاط ما هو جوهري داخل هذه العملية، حتى ولو كان هذا الجوهري يناقض قناعاتنا المترسخة والتي توفّر لنا طمأنينة كبيرة، من هنا كان لا بدّ من قتل الأب الشرعي (بالمنطق الفرويدي) والأب غير الشرعي.أي الأب الآتي من وطنك ومن لغتك، أي من فراشك والأب المتأتي من لغة أخرى، هو كيفية تهديم هذه المطلقات لرؤية ما يتخـبّأ وراءها من تفاصيل وصراخات وتواريخ صغيرة، طحنها هذا الخطاب.
وأنا أطالع التفاسير القرآنية الكثيرة، والنصوص التاريخية والإسلامية، اكتشفت أن هناك مزالق ارتكبت في لحظة تاريخية محددة، مازلنا نعيد إلى اليوم إنتاجها بكثير من السعادة والتلذذ المرضي الذي لا يضاهيه إلاّ فقدان الذاكرة، فعندما صرخ ابن رشد بأعلى صوته بضرورة فصل " الحكمة " عن " الشريعة "، فصل " الدولة "قد تبدو في هذا السياق كلمة تهديم مغرضة ولكنها ضرورية، لأنها تتعلّق بضرورة الانفصال عن الأبوة لا للتحليق فقط بالأجنحة الخاصة، ولكن لرؤية الحقيقة وفق مواصفات العصر التي تختلـفعن تلك ويجب " الانتباه لهذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الكتابة وتمدّد هويّة الحداثة بالنسبة لنا، العودة إلى الحكاية الشعبية لم يكن فقط من أجل استنطاق مضامينها ومعرفتها، ولكن في البحث كذلك في لغة القصّ، فاللغة ليست معطى جاهزاً ومنجزاً وما على الكاتب إلاّ الأخذ به واستعماله مثل ما يفعل الطّفل بلُعَبهِ التركيبية، مسألة أكثر تشابكاً وتعقيداً من ذلك، اللغة كائن حيّ وحاملة للمسموع والمسكوت عنه.
لغة تقول ولكن في الوقت نفسه ومن خلال الكلمة ذاتها هناك معنى يتسرسب من بين الأصابع وعلينا أن نقبض عليه بقوة وأن لا نتركه ينفلت بسهولة مثلما فعل الجيل السابق الذي اعتبر اللغة مادة كاملة ومنجزة. أليست الرواية لغة، ولغة بامتياز، ولهذا وجب العمل بقوة داخل هذا الحقل المعقّد وغير المضمون. ليس القصد هنا _ مادام العمل يتعلّق بألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية كنصوص مرجعية للفاجعة ونوار اللوز _ الارتكان إلى لغة قديمة صيغت بها هذه النصوص كما فعل الكثير من رواد هذه المدرسة للحفاظ على الهوية المهددة (؟) ولكن البحث داخل لغة العصر عن توليفات جديدة تضمن تقاطعها مع التراث وتضمن استمرارها ولْو كانت هذه الاستمرارية تتصادم بالمادة التراثية ذاتها. يجب أنّ نؤمن بمجموعة من المسلمات وأنّ لكّل زمن لغتَه ولا يمكن نقل لغة إلى عصر غير عصرها لأن هذا سينشئ حواجز بين اللغة ومستهلكها، أي القارئ الذي يتلقّاها.
الكتابة لا تعوّض اغترابا باغتراب أخر. العصر والدراسات الحديثة والتجارب الخاصة تمنح لنا فرصاً كبيراً لتغيير العلاقة باللغة بحيث تصبح تنتمي إلينا، أي إلى العصر الذي نعيشه وننتمي إليها بوصفها حاملة ليس فقط لحاضرنا ولكن لماضينا، الجانب الحاضر فيه والمغيب قصداً، لهذا العلاقة باللغة من هذا المنطق تتطلب استعدادات ثقافية كبيرة لم تكن متوفرة لدى الجيل السابق بحكم الظروف الاستعمارية والاعتماد أكثر على نزعة عصامية في الكتابة ليست دائماً إيجابية.
--
كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
آبار الصمت المتواطئ 2384