مع أن معظم الخلافات والصراعات التي تنشأ في البلدان العربية تعود في الغالب لعوامل سياسية أو اقتصادية فإنها كثيراً ما تخرج عن نطاقها إلى مجرى الانفعالات الذي يتدفق هذه الأيام بقوة على المنطقة العربية والسبب لا يرجع لمن يحرك هذا المجرى وفق خطط ومواقف تخدم استراتيجياته في هذه المنطقة وإنما لعدم وجود خط واضح تستند إليه السياسات العربية في مواجهاتها لحالات الاستهداف التي تتعرض لها مجتمعاتها وأخطرها على الإطلاق محاولات الاختراق الرامية إلى خلخلة التماسك الاجتماعي واللحمة الداخلية ورابطة الانتماء للهوية الوطنية.
ولإدراك ما سينجم ويترتب على استمرار هذه الثغرة التي تتسلل منها مشاريع القوى المتربصة يكفي معرفة ما حصل في بعض البلدان العربية فالصومال انهار كلياً ولم يعد احد يذكره.. والسودان جرى تقسيمه إلى دولتين في الشمال والجنوب وربما تلحق بهما دارفور كدولة ثالثة، والعراق بات مرتهناً للمشيئة الإيرانية، والعنف والمجازر في سوريا تدفع بهذا البلد نحو التمزق إلى كيانات بعدد فسيفساء الأقليات والقوميات التي يتشكل منها المجتمع السوري عرباً وأشوريين.. أكراداً وأرمن وشراكس.. وتطول القائمة لتمتد إلى لبنان الذي تتنازعه الفتن الطائفية والمذهبية والتدخلات الخارجية فيما تتفاقم الأزمات والمحن من كل جانب في اليمن الذي أصبح أشبه بقاعة انتظار فسيحة تتزاحم فيها الفتن مع ضوضاء الدعوات الانفصالية والشطرية التي تتدثر بأكثر من رداء وأكثر من شعار مخادع وزائف.
وإذا كان هناك من قد يصف هذا الوضع بالأخرق فإن الأخرق منه رعونة بعض العرب الذين يتخذون من عصارة السلبيات التي تنخر في أوطانهم ذريعة للتنكر لهويتهم الوطنية والانتماء المشترك والهرب إلى انتماءات أخرى أما طائفية ومذهبية وعرقية وأما جهوية وقبلية وعشائرية.. والمخجل أكثر أن مثل هؤلاء وعوضاً عن مساهمتهم في معالجة تلك السلبيات والأخطاء التي أضرت بمبدأ المواطنة المتساوية وأدت إلى إضعاف الولاء الوطني اتجهوا للبحث عن اطر فئوية بديلة.
لقد كنا نتوقع أننا وبعد الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدد من الأقطار العربية سنتجه إلى تقويم مساراتنا وتصحيح الاعوجاجات التي تعاني منها بلداننا وجعل هذه الخطوات أساساً لبناء المشروع العربي الواحد الذي سينتقل بالأمة إلى مستقبل أفضل لكن يبدو أن هناك من يصر على جرنا إلى الخلف بدلاً عن أن نتقدم نحو الإمام وذلك بإذكاء النعرات والصراعات داخل المجتمعات العربية وزعزعة السلم الاجتماعي وإعاقة أهداف التنمية الشاملة التي تعد الأساس في بناء الأمم وتقدمها.
وما لم يكن في الحسبان أن نجد من ينساق وراء هذه المشاريع التدميرية بوعي أو بدون وعي إلى درجة أن هناك من تغيرت مواقفه وتبدلت مواقعه وتحلل من المفاهيم والثوابت التي كان يعتبرها حتى الأمس القريب بحكم القداسة وربما قد لا يلتفت البعض لجسامة المخاطر الناجمة عن هذه المشاريع الجهنمية التي يتم تغذيتها من الخارج واستغلالها لتفكيك المجتمعات العربية من دون قراءة دقيقة للمشهد الراهن في اليمن والذي قد يتفاجأ البعض أن (الهوية الوطنية اليمنية) أصبحت اليوم في مواجهة العديد من الهويات المصطنعة التي لا تستقيم مع أي معنى تاريخي أو حضاري أو ثقافي يتصل بهذا البلد الذي ظل محافظاً على هويته منذ أقدم العصور والأزمنة ويمكن متابعة ما يدور في الوقت الحالي في المنطقة الممتدة من موريتانيا حتى اليمن للوقوف على حقيقة الصراعات القائمة والتي تشبه (حالة حرب) يمكن أن تمس حياة ما لا يقل عن 215 مليون مواطن عربي.
ولئن كان تورط بعض الأطراف الخارجية في هذه المخططات المعادية للعرب ووحدتهم أمراً يمكن تفهمه.. فان ما لا يمكن استيعابه تحت أي ظرف كان هو أن يندفع بعض من يحملون هوية هذه الأمة إلى استبدال هويتهم بهوية كاذبة لا ترمز إلى أي دلالة ويمكن أن نستجلي ذلك مما حدث مؤخراً في اليمن وما صدر عن المؤتمر الأول للحراك الجنوبي الذي عقد نهاية الشهر الماضي بمدينة عدن حيث أكد هذا المؤتمر على أن الهوية الجنوبية هي جوهر الصراع مع اليمن على الرغم مما في هذا الطرح من تناقض صارخ واعتساف للعقل والمنطق وفقه التاريخ والجغرافيا.
وفي النهاية فلا يبدو أن المنطقة العربية على وشك الدخول في مرحلة مختلفة تتيح لها إعادة بناء نفسها على أساس سليم والخروج من حالة الثورة إلى حالة الدولة طالما بقيت هذه الأمراض المزمنة دون معالجات وحلول تمنع تفاقمها واستفحالها سنوياً وطالما ظلت معاول الهدم والخراب أقوى من أدوات البناء والتشييد والانجاز والتطور.
علي ناجي الرعوي
حتى لا ينتصر الخراب في أوطاننا 1918