إن النزعة الغربية في أحكام السيطرة على العالم العربي والتدخل في شؤونه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطبيعة النظام الدولي الذي يقوده الغرب اليوم, فلقد بيّن علماء العلاقات الدولية (من الغرب والشرق على السواء) أن النظام الدولي المعاصر وليد صراع مرير خاضته أوروبا في عصور الظلام, وانتهى ذلك الصراع بنصر قوى لبرالية تمكنت من فرض مبدأ العلمانية الذي انبثق عنه مبدأ السيادة للحد من تدخل الدين المتمثل في الكنيسة في شؤون الممالك الأوروبية, وغدا ذلك كنظام سياسي للمجتمع الأوروبي يمنع تدخل الممالك الأوروبية في شؤون بعضها البعض, ولقد أقـُرّ ذلك في معاهدة وستفاليا 1648م, وعلى هذا الأساس ظهر في أوروبا ما يعرف بالعائلة الأوربية, كمجتمع من الدول, لها نفس الثقافة وتقيم العلاقات فيما بينها على أساس تلك الثقافة, كما تمكنت القوى اللبرالية من هدم نظام الإقطاع الاقتصادي لتحل محله مبادئ الرأسمالية وبذلك اكتملت ملامح نظام العائلة الأوروبية, وظل ذلك النظام حكراً على أوروبا دون غيرها لكي لا يستفيد غيرهم من مبدأ السيادة, مما يتيح لها استعمار أقاليم العالم التي اعتبرتها مباحة لا سيادة لها.
وبعد أن تعذر على أوروبا الاستمرار في استعمار الشعوب عسكرياً عملت قدر المستطاع على توسيع نظامها الثقافي تدريجياً من خلال ضم كل من يخنع لثقافة ومبادئ العائلة الأوروبية إلى ما أسمته لاحقاً المجتمع الدولي, وكانت أوروبا قد مدت جسورها إلى الأمريكيتين واستراليا ليستوطنها الأوروبيون ويهيمنوا عليها بل وينطلقوا منها, ويبدو أن آخر المتهاويون أمام القوى اللبرالية هو الاتحاد السوفيتي لينفرد الغرب اللبرالي وعلى رأسه الولايات المتحدة بإدارة المجتمع الدولي على أسس العائلة الأوروبية المشار إليها أعلاه.
وتحت قيادة الولايات المتحدة ظهرت موجة جديدة من تمدد المبادئ اللبرالية متجهة نحو العالم الإسلامي, الحلقة الضعيفة في الساحة الدولية الذي فشل وذهبت ريحه منذ أن دب الضعف في الدولة العثمانية وتحولت إلى دويلات ضعيفة كانت قد رزحت للاستعمار لعقود عدة, تلك الدويلات لم تكن لتقوى على البقاء في الساحة الدولية إلا بفضل التوازن الدولي الذي أوجدته الحرب الباردة, وما إن اختل ذلك التوازن حتى بدت تلك الدويلات وعلى رأسها الدول العربية هدفاً مطلوباً لقادة النظام الدولي لتفرض على شعوبه مبادئ العائلة الأوروبية, إلا أن ثقافة شعوبها بقيت مختلفة وظلت ترفض العلمانية وتربط الدين بالدولة, وظلت مبادئها المستقاة من الشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً صارخاً عن ثقافة العائلة الأوروبية, الأمر الذي اعتبره قادة النظام الدولي معيقاً لسيطرتهم على المجتمع الدولي, ولعل هذا ما دعا قادة حلف النيتو إلى اعتبار العالم الإسلامي العدو البديل للشيوعية، الأمر الذي استوجب بقاء حلف النيتو قائماً بعد انهيار حلف وارسو 1991م، بل وتم تغيير مهمته من دفاعية إلى هجومية خارج أوروبا في قمة أوسلو 1992م وتم تحديد الأقاليم التي تمدد فيها العالم الإسلامي وحضارته، باعتبارها خطراً يهدد الحضارة الغربية, وهذا ما هيأ له وعبر عنه بوضوح كبار منظري الغرب المعاصرين, فمما قاله فوكوياما "إن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي لديها بعض المشكلات الأساسية مع الحداثة اللبرالية...فإما أن يتصالح مع قيم تلك الحضارة...وإما الدمار", وقال هنجتنجتن في نظريته الشهيرة صراع الحضارات إن "الإسلام هو قوة الظلام في العالم بسبب نزوع المسلمين نحو الصراع العنيف ومن هنا [يأتي] الصدام المحتوم بين الإسلام والغرب".
ولكن لماذا المنطقة العربية بالذات محل تدخل الغرب بشكل سافر؟!.. فمن أبرز مظاهر ذلك التدخل زرع إسرائيل ودعم الدور الذي تقوم به بشكل مطلق ومخالف حتى للقوانين والقرارات الدولية التي أقرتها ومررتها الدول الغربية من المنظمات الدولية.
يعتقد البعض أن الموقع الجغرافي والثروات الكبيرة هي السبب في التدخل, وإن كانت هذه الرؤية لا تخلو من الصحة, إلا أن لكل منطقة موقعها المهم وثرواتها الغنية كذلك, لذا نعتقد أن السبب الرئيس هو أن هذه المنطقة هي منبع الإسلام الذي يرفض مبادئ اللبرالية وأن لغتها العربية مكنت العرب من فهم الشريعة الإسلامية بدون مؤسسات وسيطة, فالعربي, على سبيل المثال, يقرأ قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ, ويفهمه بيسر.. ومن هنا تظل هذه المنطقة في نظر الغرب هي الأخطر على المشروع الغربي العالمي, ولقد لاحظنا أن الغرب حتى خارج المنطقة العربية يستهدف بشكل أساسي الفئات التي تعلمت على أيدي العرب وتشربت لغتهم وأخذت من ثقافتهم الإسلامية.. ومن هنا ندرك أن اللغة هي ثقافة وتعد أهم الأدوات لنشر الحضارة بكل مدلولاتها من دين وسلوك وقيم وأخلاق وأن المنطقة العربية هي صاحبة هذه اللغة, وهكذا يأتي التركيز على المنطقة العربية دون غيرها، لأنها بمثابة القلب من الجسد للحضارة الإسلامية والتدخل يتم لإجبارها على هجر ثقافتها وقبولها بثقافة العائلة الأوروبية، ثقافة المجتمع الدولي المعاصر.
ولم يفت ذلك على علماء المسلمين, فالعلامة المودودي، رحمه الله ـ انكب على وضع خطة تعليمية للجامعات الإسلامية العالمية كان أحد أهم توصياتها "أن تكون لغة الدراسة بلغة ثقافتنا اللغة العربية".. وهنا لنا أن أتساءل: لماذا قال "لغة ثقافتنا" وهو هندي المولد واللسان؟!.. في تقديرنا أنه يعي تماما ارتباط الشريعة الإسلامية بلغة ثقافتها, اللغة العربية, كما يرى ابن خلدون أن للعرب سجايا كسلامة الفطرة والأنفة والشهامة والكرم وإذا ما قادهم الدين أزاحوا غيرهم من الحضارات وسادوا العالم وهذا ما عبر عنه ابن خلدون بقوله " فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله, ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها, ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق, تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك", ويبدو أن هذا ما اعتبره الكاتب الغربي الشهير فريد زكريا في مؤلفه (مستقبل الحرية) مشكلة للحضارة الغربية, حيث أكد على أن المشكلة أمام الغرب في العالم الإسلامي هي "العقل العربي" الذي يعتز بحضارته ويرفض التسليم للحضارة الغربية, وهكذا يظل الصراع قائماً، فالغرب يتدخل بكل الوسائل لإخضاع العالم العربي وسيبقى العالم العربي متشبثاً بهويته منافحاً عنها, وهذا بالضبط ما يفسر كثيراً من الأحداث الجارية على الساحة العربية اليوم، لاسيما صراع الهوية الذي أثارته ثورات الربيع العربي التي انطلقت مع مطلع العام الماضي, فجل ما يسعى إليه الغرب اليوم هو إعادة دول الربيع العربي إلى حظيرة المجتمع الدولي الذي يمتلك حق الامتياز فيه العائلة الأوروبية.
/ د/ أحمد عبد الواحد الزنداني
قسم العلوم السياسية جامعة صنعاء
د/ أحمد عبد الواحد الزنداني
رؤية تحليلية : العالم العربي بين السيطرة الغربية والتمسك بالهوية الإسلامية 2415