العيد يوم جديدٌ يفيض على الحياة معنى جديداً لم يكُ حاضراً فيها من قبل، فالعيد يوم واحد يختلف عنْ باقي الأيَّام؛ وزمن قصير قد يقضى فيه مالا يكون في عمرٍ طويل، وهذا من فضلِ اللهِ على النَّاسِ يوم شرعَ لهم الأعياد وجعلها موضع اتفاقٍ بينهم، وهي أعيادٌ شرعية تجيءُ بعدَ مواسم فاضلة فيها البركات والرحمات؛ فما أعظم فضل الله على عباده حين جعل توديعهم للمواسمِ في يومي عيد لا مثيل لهما؛ فقد جاءا بوحيٍ رباني على النبي الخاتمِ -صلى الله عليه وسلم.. ولذا اتَصلا بالسماءِ في معانيهِما الجميلة واتَصفا بخيرٍ مشهود للفرد والمجتمع.
ولأنَّ العيد يحوي كثيراً من القيمِ النبيلة يفرح به الجميع؛ فلكل واحد فيه مطلب وأمنيةٌ يسعى في تحقيقِها اقتباساً من خيراته، غير أنَّ أسمى المطالبِ ما كانَ خالصاً لوجه الله ونافعاً للكافَّة دون تحجيرٍ على رغبات الأفراد مادامت شرعيةً ومقبولة؛ إذْ لا يخلو فكر من غاية ولا تنفك نفس عن بغية.
فتمر بنا كل عام أعياد الخير والبركة وتظل عيوننا وعقولنا تترقب شهر بعد شهر ويوم بعد يوم حلول الأعياد، لترتاح النفوس... وينكسر روتين الحياة الهادر.. وتفيض المشاعر بالحب والتسامح والإيثار ويزداد العطاء ويصير للحياة طعماً آخر (حلو المذاق) وملمس آخر (ناعم كالحرير).. لكن مع كل هذه العواطف الجياشة التي نحملها للعيد نجد أن البعض يرهبه العيد ويخيفه، لأنه قد باتت للعيد طقوس ومتطلبات ومستلزمات كثيرة، لابد من استكمالها قبل أن يحل.
فقبل العيد تبدأ رحلة معاناة للكثيرين، حيث تبدأ الضغوطات الأسرية بضرورة تجديد البيت من حيث الديكورات والأثاث والتجهيزات الأخرى وكذلك ضرورة شراء ملابس جديدة لجميع أفراد العائلة والأضاحي والهدايا للأقارب والعيديات للأرحام ويصاحب ذلك اختلاف الأمزجة والرغبات لدى الأبناء والبنات فكل يريد ماركه معينه ولون معين وقياس معين، بينما الآباء يرغبون بأشياء أخرى قد لا ترضي الأبناء, فما بين واقع الآباء والأبناء قد تغيرت المفاهيم وتبدلت الأشكال وصار للحياة وجه آخر.
وقبل العيد تترقب العيون...وتتوق النفوس للقاء الأحبة الذين أبعدتهم الغربة, حين يعودون إلى أوطانهم وأهلهم وأصدقاءهم يضمونهم للصدور وتكتحل برؤيتهم العيون وهم يشاطرونهم الطعام والشراب بعد طول الغياب.
وقبل العيد تزداد حركة الناس وربما يزداد البذل والسخاء عند الكثيرين منهم، فيتفقدون الفقراء والمحتاجين ويساعدون الحزينين وهم لرضا الخالق مؤملين وراجين.
ثم في العيد تلبس الأوطان حلة قشيبة، ويعم الفرح على الجميع وهم يلبسون كل جميل وجديد وتراهم يتزاورون ويتبادلون التهاني بكل الوسائل المتاحة (سواء بالسلام المباشر أو من خلال الاتصال السلكي أو اللاسلكي أو حتى من خلال الرسائل القصيرة عبر الهاتف النقال أو من خلال الشبكة العنكبوتية).. لكن تظل الفرحة ناقصة, والنفس يعتصرها الألم, ونحن نرى الثكالى واليتامى والمهجرين والمتشردين والدماء التي تسيل شرقاً وغرباً أو شمالاً وجنوباً من حول وطننا الغالي الحبيب, الذين نلهج بالدعاء إلى العلي العظيم أن يحفظه وأهله آمناً مطمئناً ويحميه من كل من يضمر له سوءاً أو يريد به شراً.
أما بعد العيد فتشد الرحال مرة أخرى، حيث يفترق الأحبة وتتباعد المسافات ويكون الفراق صعباً على النفوس، لكن الأمل باللقاء.... وضرورة السعي وراء لقمة العيش... أو بهدف تحصيل العلم، هو ما يخفف على النفوس حزنها وكدرها.. وما هي إلا أيام تنقضي، وتبقى بعدها الذكريات، إما جميلة حيث كان التسامح وكرم النفس واليد واللسان وإما أليمة حيث كانت القطيعة والخصام وبخل النفس واليد و واللسان.
رائد محمد سيف
قبل أن يأتي العيد !! 1919