لو استشعر القاضي أهمية المسئولية الملقاة على عاتقه والأمانة التي تبرأت منها الجبال وحملها واستذكر قوله تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) وقول الرَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : اثْنَانِ فِي النَّارِ , وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ ، رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا , فَقَضَى بِعِلْمِهِ , فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَرَجُلٌ قَضَى بِجَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ , فَهُوَ فِي النَّارِ" وقوله أيضاً (من ولِيَ القضاء فقد ذُبِح بغير سكين) ولو استشعر القاضي كل ذلك لأنصف الناس وحقّق العدالة بين المتقاضين وحلّ الأمن والاستقرار والسلام في المجتمعات وأمِنَ المستثمرون على أموالهم ونهضت الدولة وازدهرت الحضارة.
ولو أنصف القاضي لحُلَّت المشاكل صغيرها وكبيرها ووصل المظلومون إلى حقوقهم المنهوبة وأعِيدَت لهم أموالهم المغتصبة وعاشوا امنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وحرياتهم وحقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية، لو أنصف القاضي لما اكتظت المحاكم بالمشارعين ولخَفّفَتْ على نفسها من كثرة المتنازعين الذين قضوا الأعمار فيها سنين ! وعاشوا بين لحظات الألم والأنين وفي المحاكم مغتربين ومن حقوقهم محرومين وعن أسرهم مبعدين.
فإنصاف القاضي يبدأ من أول الإجراءات التي يقوم بها في تحديد الموعد القريب لنظر الجلسة ويتجلى بسعة صدره في سماع دعاوى المظلومين وآهات المنكوبين وبقوة شخصية القاضي الذي لا يخاف في الله لومة لائم كما يبدأ من صبر القاضي وتحمله ودماثة أخلاقه وسلامة إجراءاته وكثرة تصفحه للشرع واطلاعه على القانون ثم نَظَرَه للدعوى ومعرفة وقائعها وأسبابها وأدلتها وأسانيدها القانونية قبل عقد الجلسة، كما أن العدالة تتحقق من خلال علانية الجلسات كإجراء رقابي ما لم تكن سراً في حالتها الاستثنائية ويتحقق الإنصاف من خلال التسوية بين الخصوم في الوجه والابتسامة وفي المجلس وكفالة حقوق الادعاء والدفاع على حد سواء وبتقيد القاضي في قضائه بمبدأ الحياد وفقاً لنصوص المواد (16ــ17ــ18ــ21ــ161) من قانون المرافعات المعدل رقم (2) لسنة 2010م ويظهر إنصاف القاضي من خلال ما يتمتع به من ذكاء وفطنة وإدراك لخفايا الأمور وخباياها وضبط الجلسات وحسن الإدارة وإعمال القانون وتطبيقه بالسوية على من يعرف ومن لا يعرف وعلى من يتخلف من العاملين داخل المحكمة أو من الخصوم عن القيام بأي إجراء من إجراءات المرافعات في الميعاد الذي حددته بغرامة لا تقل عن ألف ريال ولا تتجاوز ستة آلاف ريال ويكون ذلك بقرار من المحكمة يثبت في محضر الجلسة له ما للأحكام من قوة تنفيذية ولا يقبل الطعن فيه بأي طريقة وللمحكمة أن تتجاوز عن المحكوم عليه من الغرامة كلها أو بعضها إذا أبدى عذراً مقبولاً ويجوز للمحكمة بدلاً من الحكم على المدعي بالغرامة أن تحكم بوقف الدعوى لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر بعد سماع أقوال المدعى عليه في الجلسة وإذا مضى مدة الوقف ولم ينفذ المدعي ما أمرت به المحكمة جاز الحكم باعتبار الدعوى كأن لم تكن وفقاً لنص المادة (162) مرافعات.. هذا فيما يتعلق بالمدعي لكن ما هو الحال إذا كان التخلف من قبل المدعى عليه؟ فهل يُتْرَك وشأنه يُعرقل سير الإجراءات ويتخلف عن تنفيذ الالتزامات.
فقد وضع القانون ضوابط وأُطُر قانونية فإذا تخلف المدعى عليه عن تنفيذ ما تأجلت الجلسة بسببه للمدة الثانية وطلب التأجيل جاز للمحكمة أن تحكم عليه بتعويض مناسب للمدعي شريطة أن يطلب ذلك ويجوز أن تحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسة آلاف ريال ويجوز أن تتكرر الغرامة كلما طلب التأجيل وللمحكمة بعد التأجيل مرتين للسبب نفسه أن لا تستجيب لطلب المدعى عليه إذا استشعرت عدم جديته وطلب المدعي الاستمرار في نظر الدعوى.. ذلك ما نصت عليه المادة (169) مرافعات.
والمتتبع لسير الإجراءات في المحاكم اليمنية وتطبيق القانون وهل تقوم المحاكم بإنصاف المتقاضين؟ فالحقيقة تؤكد أن عدداً من قضاة المحاكم ربما لا يهتمون بسلامة الإجراءات ولكنهم يسيرونها وفقا للأعراف والأهواء والرغبات والأمزجة والتقاليد التي كانت تتم في القضاء التقليدي القديم وذلك هو السبب في إطالة أمد التقاضي وعدم تحقيق العدالة والإنصاف وخروج القضايا عن مسارها الصحيح إلى مسارات ثنائية بعيدة عن وقائع الدعوى وجوهر القضية وتكون نتيجته فشل المحكمة في قضائها وعدم إنصاف المظلومين أو التوصل إلى حكم القانون.. فلو تقيد القضاة بقواعد الشرع الإسلامي ونُظُم القوانين الإجرائية لأنصفوا الناس وحققوا العدالة المنشودة في اقرب وقت ممكن وأراحوا واستراحوا ورضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، فالقانون يوجب على المحكمة التقيد بما هو وارد في الدعوى أو قرار الاتهام وعدم الخروج عليهما ما لم تُقَدّم طلبات عارضة من المدعي أو المدعى عليه متعلقة بموضوع الدعوى المدنية ومرتبطة بها، لكنك تجد أحياناً وللأسف الشديد أن قرار الاتهام المرفوع من النيابة قد تضمن واقعتين هما السب والتهديد، فيثير احد الخصوم أمام المحكمة وقائع أخرى غير ذلك كالتنازع على ملك أو طلب قسمة أو غير ذلك مما لم يرد في قرار الاتهام أو يقوم احد الخصوم في الدعوى المدنية بإثارة أمور خارجة عن موضوع الدعوى بقصد تتويه المحكمة فيستجيب القاضي لذلك وتتوه المحكمة والخصوم فيما لا يجوز الخوض فيه وذلك مخالف لنص المادة (360) إجراءات جزائية وفي هذه الحالة لا تتحقق العدالة والإنصاف ولا يمكن تحققهما إلا بخشية الله والخوف منه والتقيد بمبادئ الشرع ونصوص القانون.
أحمد محمد نعمان
لَوْ أنْصَفَ القَاضِي!!! 2010