عصرية صيفية ناعمة من عصاري صنعاء..هواء عليل يداعب الخدود...الشوارع شبه خالية في أمسية من أماسي الجمعة حيث الناس متلذذوون بمجالس القات أو يهجعون في قيلولة طويلة ..التنقل في صنعاء بين بعض الأحياء يساوي سفراً بالنسبة لتنقالتي في مدينة تعز التي ينتظمها شارع رئيسي وحيد يتلوى في جسدها الصغير ليشبك جميع حاراتها وشوارعها في متعرجاته..غادرت المنزل برفقة زوجة أخي "مضيفتي ومرشدي السياحي" في العاصمة صنعاء..سنزور باب اليمن..في الطريق مررنا بحي يظن المار به لوهلة أنه قطعة من مدينة أفريقية!.
تتراشق عدة مقاهي على جانبيه وتكتظ بروادها من اللاجئين "الأفارقة" تجدهم ينعمون بالأمن ويتصرفون بأريحية بالغة ويتجاذبون أطراف الحديث وهم يحتسون المشروبات الساخنة طوال فترة العصر..الطريق طويلة.. ارتفع صوت المؤذن بالنداء لصلاة المغرب..وصلنا الباب..انتهينا سريعاً من مشترياتنا، علينا العودة سريعاً..الأمن غير مستتب في العاصمة!.
طوال الطريق كانت زوجة أخي تسرد علي أخباراً عن حوادث شتى اهتزت لصداها أحياء عدة من أحياء العاصمة في الأونة الأخيرة.. وصلنا لمحطة الحافلات.. يوجد بعض الغرباء حول الحافلة الأولى..أمسكت زوجة أخي بيدي ومنعتني من صعودها. درنا لحظات حول المكان وعدنا لنركب حافلة صغيرة , وما إن استقرينا فيها حتى قفز اثنان من الغرباء للحافلة.. جلس أحدهم إلى جوار السائق وجلس الآخر قبالتنا..وتحركت الحافلة انكمشت زوجة أخي وانقبضت من مرأى ذلك الغريب.. كان أسود البشرة ملتح يرتدي قميصاً و"معوزاً" ويغطي رأسه وبعض وجهه" بكشيدة" بيضاء.. بعد مضي دقائق بدأ ذلك الرجل بدس يديه في حزام عريض يلفه حول خاصرته..رغماً عنا حدقنا في حزامه الذي بدا حريصاً على عدم الكشف عنه حين لاحظنا وجود صندوق مربع الشكل مربوط بوسطه!.. وطفق صاحبنا يعالج ذلك الصندوق بحذر وتوئدة, وهو يختلس النظر نحونا تارة ويرمي ببصره يمنة ويسرة تارة أخرى ثم يرمق رفيقه الذي في المقدمة بنظرات مريبة!!..
همست لي: ماذا يفعل ؟ ما هذا الصندوق المربوط على حزامه ؟..
قلت لها مازحة: ربما هو حزام ناسف!..
تقطعت أنفاسها وخفت صوتها وبدت مرعوبة وتساءلت بخوف: ماذا نفعل ؟ مرت بنا لحظات صمت دار خلالها بخلدي أشياء كثيرة..انصرفت بخاطري عنها وشريط الحوادث الانتحارية الأخيرة يمر أمام ناظري..هل سأصبح ضحية لإحداها؟!.
ومازال صاحبنا يعالج ذلك الحزام بيديه, وقد أخذ بزوجة أخي الرعب مأخذه فتوقفت عن الكلام, يبدو أن الخوف عقل لسانها وغرقت في حالة ترقب رهيبة.. وقبل أن تبدأ بالانهيار نزع ذلك الرجل يده فأخرج ورقة نقدية بمائة ريال ودفع بها لرفيقه الجالس بجوار السائق" ورطن "له بكلمات لم نفهم منها شيئاً..تناول رفيقه الورقة النقدية وهز رأسه موافقاً ودفع بها للسائق ثم طلبا منه التوقف وغادرا الحافلة..في تلك اللحظة انفرجت اساريرنا وكدنا نموت من كتمنا الضحك على أنفسنا.
تذكرت حينها ما حدث لنا قبل أسبوع, حين جلسنا بجوار إحدى الأفريقيات الغريبات،.بدت فظة للغاية , ورفضت أن توسع في المقعد لنجلس بجوارها واستحوذت على نصفه تضييقاً علينا وحتى لم تستجب لطلب السائق بالتوسعة , بل ورفعت صوتها بالتوبيخ لنا وبعدما نزلت قالت لي بنبرة مستفزة:
أنظري الصندل جديد!!..
التفت نحو زوجة أخي وقلت باستغراب: وما شأني بصندلها؟ هل هذه شتيمة عندهم ؟!..
فهمت بعد ذلك أنه تهديد بالضرب!.
الغرباء يتكاثرون في العاصمة بشكل مخيف..ويتحدثون معنا بصلف وعنجهية كأنا نحن اللاجئون عندهم!!.. كل يوم نكتشف بأنا شعب مضياف للغاية , ويبدو أنا لطفاء مع الغرباء أكثر مما ينبغي!..
بدت صنعاء بتكاثر هؤلاء فيها كضاحية مهملة من ضواحي بلد بلا نظام أو رقيب.. عاصمة استوطنها الغرباء الذين غدو مفردة غريبة من مفردات الحياة في صنعاء!!.
نبيلة الوليدي
صنعاء..عاصمة يستوطنها الغرباء!! 2350