خطاب لم أقرأ أو أسمع بمثله منذ زمن طويل مضى, خطاب مليء بالصدق والشفافية وقبلها بالبساطة والتطرق للواقع والحقائق دون مقدمات أو تعقيد يذكر مع دقة التشخيص للداء ووضع المعالجات الحكيمة له.
خطاب يخاطب ضميرك وعقلك وكذلك يكسب مشاعرك وتضامنك , لم أرَ أو أسمع رئيساً عربياً (منذ زمن وعهد عبدالناصر ) بمثل هذا التواضع والمباشرة والصدق في الطرح العلني للصعوبات والمشاكل التي يعاني منها وتواجهه .. هذه اللغة الصريحة والواضحة التي تدفعنا دفعاً لفهمها بعمق وللتفاعل بل والتعاطف معها ومعه ولسببين بسيطين أولاً أنه يحدثنا عن معاناته وما يؤرقه كانسان ينتمي معنا إلى الوطن والواقع ذاته قبل أن يكون رئيساً له ومسؤولاً عنه, ثم لأنها أيضاً هي ذات مشاكلنا ومعاناتنا مواطنين ووطن.. وثانياً لأنها لغة صادقة وبسيطة تدخل القلب مباشرة قبل أن يفهمها العقل فتسهل مهمة استيعابه لها.. أذن معاناتنا هي معاناته وهمنا هو همه واليس هكذا يجب أن تكون العلاقة المثلى بين قائد وشعب ينتمون لذات الوطن.. تأثرت أكثر وهزتني من الوجدان عباراته الأخيرة في الخطاب حتى أنني دعوت (معه) الله أن يهدي الفرقاء كافة في بلادنا لما فيه خير الوطن وأهله كما دعوت الله (أيضاً) أن يشد من أزره وان يوفقه فيما هو قادم عليه من مهام يعجز عن النهوض بها أقوى وأدهى الرجال ولا تستطيع أن تتحملها أكبر الجبال, وأن ينصره على كل من يضمر بالوطن شراً.
تأملوا في الخطاب ومحطاته العديدة التي هي قصة شعب يعاني ووطن يتجه نحو المنزلق وادعوا معي أن ينصر الله هادياً لينتصر بذلك شعب ووطن, حيث قال هادي ومشاعرنا الصادقة وأيادينا جميعا ترتفع بالدعاء معه (( اللهم إنك تعلم صدق نوايانا وحرصنا على المضي بهذا البلد الطيب إلى بر الأمان فأعنا ووفقنا لذلك وامنح رفاقنا على الطريق بمختلف توجهاتهم وأهوائهم نور البصيرة ونفاذها حتى يستبصروا ما ينفع الوطن وأهله)).. اللهم أستجب لهاديا, اللهم ألطف باليمن وأهله.
أما بعد, فدعونا نعود إلى نص الخطاب آنف الذكر, ليس للتقييم والتحليل (فالخطاب واضح وشفاف ولا يحتاج لقراءة ما بين السطور كما تحتاجه معظم خطابات الرؤساء العرب ) بل للاطلاع واستعراض ما فيه من عبر وقيم وعدد كبير من النصائح والمحاذير.
خطاب الرئيس هادي الذي جاء هاماً ووطنياً بامتياز وموجهاً إلى جماهير شعبنا اليمني في الداخل والخارج بمناسبة اليوبيل الذهبي لثورة الـ 26 من سبتمبر الخالدة، بهرنا وصدمنا في ذات الوقت, بداية باعترافه الواضح والصريح بوجود معوقات أقر بها وكاشف الشعب اليمني فيها قائلاً: (وكما عودتكم أن أكون صريحاً وصادقاً معكم فإنني لا أخفي عليكم أن التحديات لا تزال ماثلة ولا يزال هناك قدر من الشقاق والمناكفات ومحاولات لاستعادة الصراع بطريقة أو بأخرى وهي أمور ستبقى مادام الحاملين لهذه المساوئ يرفضون التخلص من وهم أن كل واحد منهم هو مركز الكون الذي لا تستقيم الحياة إلا بوجوده) بهذا الوضوح والصدق أوضح هادي المشكلة وأسبابها الكامنة في مساوئ النفس البشرية وعقد البعض ونرجسيتهم المفرطة وتجاهلهم لمصالح الوطن وآمنه واستقراره وازدهاره !.
وليقطع الطريق أمام مثل أولئك من ضعاف النفوس أكد هادي القول أنه اختار المضي في قيادة التغيير عن قناعته واعداً بأنه لن يلتزم الصمت أمام أي محاولة لتعطيل التغيير, واعتبر التغيير (مسألة مصير لليمن) قائلاً (( لن أستسلم وسأواصل حتى يصل البلد إلى الضفة الآمنة، متحرراً من حمولات الماضي وأثقاله وتبعاته وتأثيره شخوصاً وأفكاراً وأعتبر نفسي ملزماً أخلاقياً ودستورياً بالمضي فيما بدأت لأن ما أقوم به هو تنفيذ لإرادة الشعب الذي استمد منه القوة والعزم لاستكمال المقاصد التي ارتضاها الجميع فيما حوته بنود المبادرة الخليجية لإخراج اليمن من أزمته ونحن نقدر دور المجتمع الإقليمي والدولي حق قدره في تحقيق هذا القدر مما تحقق من استقرار))، كما كان منصفاً للآخريين في الداخل والخارج (كما رأينا سلفاً وسنرى لاحقاً) ممن وقفوا معه ومع اليمن للخروج من هذه المحن.
ولمن لا يعلم فإن هادي ملزم (نفسياً وأخلاقياً ودستورياً وشعبيا وإقليمياً ودولياً) بالمضي قدماً فيما بدأ به من تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة.
كما نبه الرئيس هادي : أن البعض للأسف ما يزال يخشى من الديمقراطية ولكن هذه الخشية لا يمكن السماح لها بأن تقف في وجه الحل الوحيد الذي يضمن الخروج بالبلد من مرحلة التوافق إلى مرحلة الاستقرار لأنه وبدون تحقيق ذلك ستكون إعاقتنا دائمة, والبعض الآخر يستهويه وضع الشروط المسبقة للحوار, وعن أهمية المشاركة والعمل الجماعي والتوافق قال (ليس لنا ولا نملك خياراً غير الحوار, ولقد بلغ نضالنا لحظة حاسمة ونجحنا مجتمعين بإنقاذ البلد من دمار كان وشيكاً وهو ما يحتم على دعوة العلماء والسياسيين والمثقفين والشيوخ والوجاهات الاجتماعية وقادة الرأي لاغتنام هذه اللحظة والعمل على خلق الأرضية الصالحة للتوافق حتى تتسارع عملية التحول الشامل ولم يعد بوسع أحد التسويف أو المماطلة، لأن الجهود إذا توانت أو ضعفت الآن فسيكون ذلك بمثابة تفريط بفرصة توافرت الظروف لإنجاحها حتى اليوم على الطريق ينبغي أن يشجعنا ذلك على مضاعفة جهودنا للوصول إلى غايتنا، لأن مسيرتنا نحو التغيير لا رجعة فيها وعلينا ألا نسمح للتردد أو المخاوف أن تثنينا عنه لأن عودتنا إلى الوراء ستكون بمثابة هزيمة لن تسامحنا الأجيال القادمة عليها لأنه سيعد تفريطا بحقها بالعيش في وطن آمن ومستقر والمسافة التي علينا أن نكملها ليست طويلة ومع أنها ليست هينة ولا سهلة إلا أننا يمكن أن نقطعها معاً ولا بد أن لهذا الإنجاز أن يستمر لأنه يقوم على مساندة شعبنا الذي حملنا أمانة الوصول بآماله وأحلامه لكي تكون واقعاً وحقيقة, أريد أن يكون حديثي منصباً عن حاضر نبحث عن إصلاح ما أعوج فيه ليكون محطة انطلاق إلى مستقبل أفضل نريد تحقيقه وقد سرنا على الطريق رغم الكوابح التي خلقها واقع مشحون بالعداء والكراهية وتحملنا بصبر تبعات فعل التغيير الذي كان مؤلما للأطراف المختلفة وجعلتها متهمة أحياناً ومهددة أحيانا ومخربة في أحيانا أخرى, فقط لأن سوء النوايا كان وراء كل تفسير يأتي بعد أي تغيير لم يؤد إلى إعادة إنتاج سلطتها في شخوص من تم اختيارهم) ومع ذلك تعامل الرئيس هادي مع سوء النوايا تلك بأخلاق وسلوك الفارس فكان كريما معهم وصبر وأحتسب فعاد البعض إلى رشده والبعض الأخر تقمص سلوك اللئيم فأساء فهم كرم هادي وصبره وأخلاقه الرفيعة التي تحرص على لحمة شعب واستقرار وطن فكان منهم التمادي في فعلهم الإجرامي وأعمالهم الإجرامية التي تضر بمصالح الوطن العلياء!.
وقال هادي إن ذلك لم يوهن من عزيمته وإنه كان متوقعاً لما هو أكثر منه وأشد، مشيراً إلى أن "أية عملية انتقال للسلطة وبالذات حينما تكون بحجم ما نحن مقدمون عليه فإننا يجب أن لا نتوقع أن تكون الأرض معبدة ومفروشة بالورد وبالذات حين يكون الهدف الذي نريد تحقيقه هو الانتقال من الشرعية التقليدية إلى مرحلة الشرعية الدستورية والقانونية وهو ما نواصل السير لتحقيقه.
هادي القائد والإنسان لم يستثن أحداً من المشاركة في العيش في الوطن وبنائه وذهب بعيداً في ذلك حد أوصله إعطاء الفرصة لتنظيم القاعدة في العودة عن غيهم والمساهمة في بناء اليمن لا تخريبه وقتل أبنائه حيث قال هادي إنه (ممكن الحديث عن فتح حوار شريطة أن تعلن القاعدة عن موافقتها علي تسليم أسلحتها وإعلان توبتها من أفكارها المتطرفة البعيدة عن الإسلام وتخليها عن حماية العناصر المسلحة من خارج اليمن وبحيث يكون ذلك بمثابة فتح باب للحوار، إلا أن الوسطاء عادة ما يذهبون ولا يعودون مرة أخرى).
وعن تقاعس بعض الوزراء في حكومة الوفاق وإهمالهم لمصالح الشعب الذي يعاني الأمرين في ظل الوضع الراهن, فإن هادي حثهم على مغادرة مربع السياسة والتفرغ لأعمال وزاراتهم بعيدا عن مساندة أحزابهم بالمناكفات التي لا تساعد على البناء بقدر ما تؤدي إلى الهدم, والشعب بعد كل ما عانى لا يحتاج إلى حكومة حزبية وإنما لحكومة مهنية تعمل لأجله وتلبي احتياجاته في ظل التحديات الاقتصادية والأمنية والذي لا يمكن العثور على حلول لها إلا عندما يلتزم الجميع بأن يكون الوطن والشعب مقدماً على المصلحة الحزبية والشخصية, كما حذرهم بوضوح تام وقال: إن الشعب لا يحتاج لحكومة حزبية وإنما لحكومة مهنية تعمل لأجله وسيتم مراقبة أداء الحكومة وتقييم كل وزير ومسؤول وسيكون الحكم على الأداء والانجاز الذي حققه وليس بما أهدر به الوقت من تصريحات سياسية تضر أكثر مما تنفع.
وفي موقف إنساني وحقوقي مميز دعا هادي كل من اضطرته الظروف للخروج من وطنه أن يعود للمشاركة في بنائه، إذ ليس هناك خط احمر ضد أي مواطن يمني مادام يحترم دستور البلد وقانونه.
وعن ثورة الـ26 من سبتمبر والـ14 من أكتوبر تحدث هادي قائلاً : إن الاحتفال بهم هو بمثابة الوفاء للشهداء والمناضلين وبفضل التضحيات التي قدموها., كما دعا معارضة الخارج للعودة شريطة احترامهم الدستور والقانون وقال إنه لن يسمح بتعطيل مسار التغيير.
بقي أن نقول لولي الأمر وربان السفينة (سافر وارجع لنا بالسلامة فالأمة تنتظركم وتتوق لجهودكم الحميدة والمباركة في إخراج الوطن إلى بر الأمان حفظكم الله ورعاكم وسدد على طريق الخير والرفعة خطاكم.
عن مواقف لهادي :
* اعتبر هادي بان جولته الخارجية الحالية فاتحة خير وبشائر أمل لمساعدة اليمن في أزمته وظروفه الصعبة الراهنة، قائلاً إن هذه الجولة لها أبعادها ومقاصدها التي تصب في مجرى تجنيب اليمن ويلات الحرب والانقسام والانشقاق وإخراجه إلى بر الأمان.
*دعا الرئيس عبد ربه منصور هادي اليمنيين إلى الالتفات للمستقبل وترك خلافات الماضي.. وقال «خمسون عاماً قضيناها في اليمن ونحن (يا قاتل يا مقتول).. حروب مستمرة وخلافات لا تنتهي، ولا بد لليمنيين من أن يتركوا وراءهم ماضي الحروب والخلافات، وأن يتوقف النهج الذي يؤدي إليها".
*هادي : «وضعنا في اليمن لا يحتمل المزيد من الكلام نحن نريد المزيد من العمل»، ونحن مقبلين على مرحلة الحوار الوطني الذي شدد على أنه سيكون مفتوحاً ومن دون شروط مسبقة.
* شبه هادي سير الأمور على مستوى التحول السياسي وبناء اليمن الجديد «بسيارة تحاول شق طريقها في طريق رملي تغوص فيه عجلاتها، ويحتاج سائقها إلى التوقف بين الحين والآخر لإزالة الرمال المتراكمة حول إطارات السيارة، ووضع بعض الألواح المعدنية تحت الإطارات لتمكين السيارة من المسير والخروج من بحر الرمال".
*هادي: مخاطباً لجنة الحوار بصراحة متناهية: لن أقبل أي ضغوطات أو إملاءات عليا أو المزايدة باسم الحراك، ومن يرغب أن يستقيل من اللجنة ولا يرغب بالاستمرار فيها فليتفضل وسيتم تعيين بدلاً عنه، ولا نريد مزايدة باسم الحراك, أن قضية تمثيل الحراك في لجنة الحوار تحظى بمتابعة شخصية مني لكل مكونات الحراك وفصائله التي ستحدد ممثليها في الحوار الوطني بعد عقد مؤتمرها في أكتوبر القادم,وفيما يخص البدء بتنفيذ النقاط العشرين فإنه يوجد فيها ما يمكن قبوله وما لا يمكن قبوله، وقد تم تشكيل لجان قانونية ستعمل على صياغة تصورات بشأن بعض تلك النقاط التي تتطلب مسائل قانونية, وعليكم العمل بروح المسؤولية الوطنية بعيداً عن التجاذبات والانتماءات الحزبية وجعل المصلحة الوطنية العليا فوق أي اعتبارات حزبية أو مناطقية ضيقة.
طارق سلام
أصدق خطاب ..... 1909