خمسون عاماً مرت منذ انطلاق شرارة ثورة سبتمبر الخالدة ولازال أبناء اليمن يعيشون في المنطقة الرمادية بين الدولة واللادولة، هكذا هو قدرنا كما يبدو مكافحين حتى آخر رمق من أنفاس اليمنيين، ولكم كان الآباء والأجداد عظماء وهم يسطرون بدمائهم لوحة فنية بطولية انبثق ربيعها في فجر السادس والعشرين من سبتمبر1962م ليعم خيرهم الوطن بأكمله شماله وجنوبه، ولكم كانوا أكثر نبلاً وعطاء وهم يعلنون ثورة عظيمة ضد أسرة وفكرة وحكم طائفي مقيت خصوصاً وأن الحاكم آنذاك كان يعتقد بأحقية حكمه بطريقة دينية فجة بشعة تستغل الدين لتحقيق مآربها القذرة في استعباد الناس وإهانتهم وتجهيلهم، فلكم كان الثوار نبلاء وأطهاراً ورسل حرية وسلام بعثهم الله كيما يدكوا عروش القهر والظلم والاستبداد، ولابد من ضرورة استشعار حجم الجهل والتخلف الذي كان مستشرياً في أوساط الشعب آنذاك والذي يزيد من حدة القهر والألم النفسي لدى الثوار الأحرار والذين ما هانوا ولا استكانوا ولا كسرت لهم أي إرادة رغم العوائق والتحديات المتعددة أمامهم والتي بدورها تبقى عقبة كبرى أمام تقبل رسالة الثوار وإيصال فكرتهم الثورية لعامة الناس والذين شوهوا بحملات وشائعات إعلامية استهدفت نبل فكرتهم وعظمة تضحياتهم، ولعل البعض منا أدرك حجم هذا التأثير حينما اندلعت شرارة الثورة الشبابية واستمرت أكثر من عام ونحن نتحدث ونخاطب البعض بان من خرج إلى ساحات الثورة لم يخرجوا بحثا عن مصالح شخصية وإنما خرجوا من أجل الجميع ومن أجل الوطن أرضا وإنسانا فكنا نجد في كثير من الأحيان ألما وحسرة بالغة في النفس وتأثيرها أشد وأقوى من رصاصة قناص يستهدفنا في ساحات الثورة وميادينها، وكان البعض من شباب الثورة يتفهم ويعذر الكثيرين ممن يدافعون عن النظام السابق بحجة الجهل والتخلف والهال الإعلامية التي صنعها النظام السابق في سبيل البقاء والتوريث، وعودة على ذي بدء، فمن يستشعر مثل هذه الفوارق سيجد بأن ثوار سبتمبر أكثر وأكبر ثورية منا اليوم،ذلك أن الفوارق والإمكانيات لدى ثوار سبتمبر بالأمس
وثوار فبراير اليوم مختلف، رغم اختلاف الوسائل الثورية بين سبتمبر وفبراير، فبالأمس كانت مسلحة واليوم سلمية بأدوات ووسائل جديدة، لكن الحلم واحد لدى الآباء والأجداد وشباب الثورة اليوم ولعل اشتراك أهداف الثورة السبتمبرية بأهداف ثورة الشباب يؤكد بأن الأحلام واحدة والروح
الثورية تشربت من مشكاة واحدة، ولعل تجليات المشهد الثوري ونتائجه واحدة في الحالتين، إذ جاد الثوار قديماً وحديثاً بأرواحهم رخيصة في سبيل الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم وحقق ثوار سبتمبر وفبراير جزءاً من أهدافهم بإسقاط الحكم الأسري، إذا ما قارنا الفترة التي تلت ثورة سبتمبر بنفس الفترة التي مرت على الثورة الشبابية منذ انطلاقتها وحتى اللحظة، لكن ثورة سبتمبر استمرت وطال أمدها وقدم الشعب لها أكثر من مائة وخمسين ألف شهيد على مدى ثمانية أعوام وظهر أثناءها صراع القوى والنفوذ وكان التأثير الخارجي هو اللاعب والمغذ لاستمرارية الصراع على حساب تحقيق أهداف الثورة وحلم الثوار والذين قضى كثير منهم نحبه في سبيل الثورة خصوصا ممن ناضلوا في ثورتي 1948 وثورة 1955 والذين جاؤء فيما بعد كقادة ثوريين أفرزهم الواقع والميدان، وفي ظل احتدام صراع القوى وتغذيته أره ممن تبقى من الثوار ذلك أن القوى الخارجية بدأت أكثر إحكام وتأثير من الواقع الداخلي فتمت المصالحة الوطنية في عام 1970م وكان أن تحقق حلم الثوار باعتراف القوى الخارجية بالثورة والذي كان هماً يؤرقهم في سبيل تحقيق بقية أهدافهم وعاشت اليمن فيما بعد عصراً جديداً من الدموية والإقتتال على رأس السلطة حتى جاء الحلم في بداية عهد الرئيس الشهيد الحمدي والذي لم يتمكن من نرجمة احلام الثوار رغم محاولته القوية والجرئية والتي أودت بحياته، واستمرالصراع حتى جاء عهد صالح والذي بدأ
بداية جيدة نوعاً ما إذا ماقورنت ببقية سنوات حكمة خصوصا العشر السنوات الاخيرة والتي تجلت فيها حقيقته ومحاولته الإنقلاب الواضح والصريح على قيم الجمهورية والتي انبثقت من ثورة سبتمبر وكان مشروع التوريث واضح للعيان بعد أن جعل الفساد والقرب منه معيار التعيين في الوظائف الهامة خصوصا العسكرية، ومع وجود الهامش الديمقراطي أدرك الشعب ما يخطط له صالح خصوصا النخب المثقفة والسياسية والتي أعتقد جازما أنها تؤاطت مع صالح بقصد أو بدون قصد وكانت لحظات خيانة وطنية بالغة لأهداف ثورة سبتمبر ولعل البعض يعذر من باب أنه كان يأمل أن صالح يتراجع عن مشروع التأبيد والتوريث يوماً ما وإن كان هذا العذر غير مبرر ومقنع، ومع اتضاح مشاريع التوريث وملفات الفساد والذهاب باليمن المجهول.
كان قدر اليمن واليمنيين مع المارد الثوري الشبابي والذي انطلق في فبراير من العام الماضي مستفيداً من إيقاعات وحركة الشارع الذي كان يغلي كالمرجل خصوصا حينما كانت المعارضة تتخذ من الشارع وسيلتها في الضغط على صالح للتراجع عما كان يطمح إليه وفي سبيل تحقيق مشروعها الوطني والمتمثل ببرنامج اللقاء المشترك للإنقاذ الوطني، فكان شباب ثورة فبراير والذين انبعثوا كالمارد ملائكة
رحمة لليمن الأرض والإنسان، فكان الشباب أكثر سرعة وإيقاعاً لالتقاط المبادرة من الأيادي السياسية خصوصاً مع مجيء نسمات الربيع العربي من تونس ومصر ولا عيب في ذلك، كونها المسؤولية التاريخية والوطنية والتي لابد وأن يشترك الجميع في تحملها، فجاءت الثورة الشبابية لتقطع الطريق نهائياً على مشروع التأبيد والتوريث وتدشن روحا جديدة لاستعادة حلم الأجداد والذي
تسلل إليه صالح بغفلة من الزمن حتى يعيد حكم الأسرة من جديد متناسيا تضحيات ثوار سبتمبر، فجاءت هذه الثورة الشبابية كمولد شرعي لحلم ثورة سبتمبر وابن حقيقي لها ولقد أثبتت الأيام بأنها تتشابه كثيرا وما أشبه الليلة بالبارحة وهاهي الفكرة الثورية واحدة، وما أخشاه أن تواصل الليالي والأيام تشابهها ويتكرر السيناريو ونغفل يوماً ما عن أهداف ثورة فبراير لتأتي الأجيال القادمة بعد عقود لتضحي بأرواحها لاستعادة أهداف ثورة فبراير، فاليقظة اليقظة وحذاري من تشابه الأحداث والأيام، مع اعتقادي بأن ثورة فبراير وثوارها في سبيل تحيق أهدافهم بشكل أسرع خصوصاً إذا ما خرج مؤتمر الحوار الوطني بقرارات حاسمة تنتصر لليمن بعيدا عن الطوائف والأحزاب ومراكز القوى والنفوذ.
ولعل ما يحز في النفس ونحن نعيش اليوبيل الذهبي لثورة سبتمبر أن فكرة الحكم الإمامي والحق الإلهي أكثر نشاطاً من ذي قبل، كون الحكم الإمامي سقط لكنه ظل حيا كفكرة من الصعوبة بمكان استئصالها إلى الأبد، وما يحز في نفسي أن ذكرى عزيزة وغالية علينا تمر ويحتفل الوطن بها والرئيس غائب عن أفراحنا في مهمة استثنائية غاية في التعقيد، لكن غيابه المؤلم فيه الشيء الإيجابي والذي لا يدركه البعض بأن زمن جديد قد بدأ للتو وبأن عهد الاحتفالات التي لا تقام إلا من أجل الحاكم يحتفل فيها بطريقته الخاصة انتهت وللأبد.
محمود الحمزي
بين سبتمبر وفبراير ما أشبه الليلة بالبارحة!! 1967