الغضب علة الإنسان قليل الحيلة والمعرفة، إما وحين يصير هذا الغضب مرضاً مزمناً وجمعياً يجأر منه ويشكو أغلب أُمة المسلمين؛ فذاك يعني الكارثة المدمرة القاتلة لوعي الأمة ولتسامحها وتعايشها ورسالتها ووجودها، فالإسلام دين محبة وسلام وحياة كونية حاضنة لكافة بني البشر.
لا أعلم كيف لمسلم في أمريكا أو أوروبا بمقدوره إقناع غيره؛ بان المسلم الحقيقي هو من سلم الناس من لسانه وأذاه؟ فالحاصل أن لدينا معضلة كامنة في تصرفاتنا الانفعالية المنفلتة،البعض يفسر ردة الفعل الغاضبة إزاء الإساءات المتكررة للإسلام ولرسوله الكريم؛ بأنها غيرة وحمية يجب أن تسري في عروق كل مسلم.
ومع هؤلاء الحق إذا ما كانت الغيرة سمة ايجابية ينبغي أن لا تهمد في عقول وقلوب المسلمين، لكننا هنا نتحدث عن الغيرة السلبية التي تشبه الحب الجامح القاتل، فكما قيل بان الغيرة كالماء للزهر قليلة ينعش وكثيره يميت!
قبل سنوات وتحديداً عقب ذلكم الغضب الذي اجتاح المسلمين إثر نشر صحيفة دانمركية رسوماً مسيئة لرسولنا العظيم؛ كنت قد تناولت الاحتجاجات الغاضبة من زاوية عقلانية أقل ما يقال عنها بأنها محاولة للاقتراب من جذر المشكلة؛ كي نفهم وندرك بان المسألة أكبر وأعمق من أن يتم زجرها ووقفها بتظاهرات غاضبة منفعلة محرقة مزهقة للدم والأنفس.
فلو أننا قرأنا كتاب (عقائد الآخرين) مؤلفه الأستاذ الجامعي والقس الأمريكي وليفر كنتمويل سميث؛ لكنا وكان الغرب يعلم نتيجة خطله ومكابرته، فالغرب عامة يجهل حقيقة المجتمعات الشرقية المسلمة المختلفة كلياً من ناحية تعاملها مع دينها الذي تعده دستوراً وقانوناً منظما لكل شؤون حياتها اليومية فكرة وأخلاق واقتصاد وسياسة وثقافة وسلوك وفلسفة وتعليم.
فوفقاً لكتاب القس المحذر للغرب من مآل خطله وجهله؛ فأن مشكلة هذا الغرب تكمن بتعامله مع الشرق بذات المنحى القائم على فكرتين مزدوجتين،فالحاصل أن الحضارة الغربية قامت على أساس الفصل ما بين ما هو علمي أو اقتصادي أو ثقافي أو فلسفي أو تكنولوجي وبين ما هو اجتماعي وديني وأخلاقي.
يقول سميث (للغربيين ولاءان، ولاء لروما واليونان كمصدرين للحضارة السائدة بينهم، وولاء لفلسطين كمصدر عقائدي لهم. وبسبب هذه الازدواجية في الولاء كان على الغربيين أن يتخذوا أسلوبين فكريين متباينين عند معالجتهم للكثير من قضاياهم، فهم يفكرون بأسلوب علماني عقلاني محض عندما يعالجون قضاياهم الاقتصادية والاجتماعية، وبأسلوب عقائدي ديني محض عندما يتصدون لقضايا الفرد الشخصية.
أما الشرقيون فإن ولاءهم للدين وحده يسود كيانهم وتفكيرهم وكل ميادين حياتهم، لذلك كان تفكيرهم وإحساسهم وتصورهم وعملهم منبثقاً من وحي عقيدتهم، وهذا هو السبب في شدة ردود فعلهم عندما يمس الدين بأي مساس).
نعم تصرفات المسلم نابعة من هكذا فهم وتطبيق لمبادئ وقيم دين الإسلام، لكننا في الواقع أسأنا كثيراً لهذا الدين العظيم المتمم والمصحح لدين الله المنزل على أنبيائه وصفوته من خلقه، كما وأسأنا لرسولنا المبعوث رحمة للعالمين وخاتم لمن سبقه من المرسلين والنبيين والمحظيين بحمل رسالات السماء.
فهناك من النصوص والأحاديث التي تم استغلالها أيما استغلال، ووظفت أبشع توظيف من كثير من الحكام المستبدين وفقهائهم الذين أساءوا قديماً وحديثاً لهذا الدين الوسط الذي باتت كثير من قيمه ومبادئه العادلة في الغرب لا الشرق، ألم يقل إمام الأزهر محمد عبده رحمه الله بعد عودته من بلاد الغرب مطلع القرن الماضي قولته الشهيرة: ذهبت إلى بلاد المغرب فوجدت مسلمين بلا إسلام، وعدت إلى بلاد المشرق فوجدت مسلمين بلا إسلام!
الإسلام العظيم لا ينال منه يوتيوب رديء وفاسد، إنما تشوهه تصرفاتنا الحمقى وتسيء له همجيتنا العبثية، فالدين معاملة والدين نصيحة، هكذا علمنا قدوتنا ومعلمنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم "فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، لكننا ويا للأسف صرنا بنظر الآخرين مجرد رعاع وبرابرة عطشى للقتل والإرهاب، ومجرد قوم غاضبين عدوانيين ناهبين رافضين للتحضر والتمدن والتعايش والتسامح.
لا أدري ما قيمة الوعظ عن حديث النبي القائل: ليس الشَّديد بالصُّرعة، إِنَّما الشَّديدُ الَّذي يملك نفسه عند الغضب)؟ ما جدوى قال الله وقال الرسول فيما نحن نكذب ونأكل السحت وننهب ثروة الشعب وخيراته كي نقيم قصوراً باذخة ونركب السيارات الفارهة؟ قال رجلُ للنَّبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب " فردَّد مراراً، قال " لا تغضب ". فهل ما نراه من غوغاء وهمجية تجاه السفارات والمصالح والسياح الأجانب فيه ذرة من إسلام محمد بن عبدالله؟
كان يمكن مقابلة الإساءة الفجة والوقحة بشيء من الحكمة والتحضر والاحترام؛ لا بالتخريب والعبث والنهب لكل ما غلي ثمنه أو خف وزنه! المواجهة لا تكون بالحرق والتكسير والقتل؛إنما تكون هذه المواجهة أولاً بمعرفة الفعل والفاعل وسببه ودوافعه ووسيلته وهدفه ومن ثم ابتداع طريقة مبتكرة ومتحضرة ورادعة، وتاليا تكون هذه المواجهة؛ بدول قوية بمجتمعاتها المتحررة ومحترمة للحريات والحقوق، لا بنظم مستبدة وقمعية وخانعة، ومجتمعات كالقطيع.
الحريات في الغرب يمكن فهمها على أنها شيئ مباح خاصة فيما يتعلق بتعبير الإنسان عن ذاته فكرة وعقيدة وفلسفة، لذا يمكن القول بان الإيمان والإلحاد صنوان للمواطنة المتساوية، وعليه فأن فعلنا يجب أن يرتقي ويتلاءم مع طبيعة الحريات الموجودة والتي لن تنال منها التظاهرات الغاضبة؛ بل يمكن وقفها وتفاديها بتشريع قانوني وطني أو دولي .
فإسرائيل قبل بضعة أعوام احتجت على فيلم (صلب المسيح) الذي اعتبرته محرضاً لكراهية اليهود، لكنها حين احتجت كان سندها قانون معاداة السامية، فهذا التشريع بات دولياً وطالما رفعته بوجه كل من يشكك أو يدحض جرائم الإبادة بحق اليهود في ألمانيا؛ بل وبكل من يناهض وجود الدولة الاسرئيلية.
قرينة الأمير ويليام مؤخراً استصدرت حكماً من المحكمة قضى بحظر نشر صور عارية لها ، وعللت المحكمة حكمها بحماية الخصوصية من الانتهاك، فهلا أدركنا بان الإساءة ستتبعها إساءات ما لم يكن هنالك تقنين واضح وصريح يجرم ويعاقب مرتكبه؟ لسنوات وعقود ودول الاتحاد الأوروبي تقابل طلب تركيا للانضمام لها بشرط إلغاء عقوبة الإعدام واستبداله بالحبس المؤبد، فهل فهمنا بان مقاومة من هذا القبيل يستلزمها أناس وأفكار وتشريعات ومواقف ودول لا مجرد غضب وهتاف: الموت لأمريكا الموت لإسرائيل؟!
محمد علي محسن
خطل وغضب ... 2523