إن سيادة القانون تستمد من سيادة الدستور، فهو الذي يضع الأسس التي يقوم عليها القانون في كل فروعه، فيسمو عليه بحكم مكانته، وتخضع له جميع قواعده القانونية بحكم وحدة النظام القانوني الذي يعلوه الدستور، وبهذه العلاقة العضوية بين الدستور والقانون، تتدرج القواعد القانونية من حيث المرتبة، فيتخذ منها الدستور وضعه الأسمى، إلا أن هذا الوضع المتميز للدستور لا ينفى أن المبادئ والقيم التي يحميها، لها جذورها التي تسبق وجوده والتي تتفاعل في ضمير الأمة، بل والتي تسود في ضمير الشعوب.
كما أن هذه المبادئ والقيم قد تكون نتاجاً لتفاعل القيم الاجتماعية، وانعكاساً لثقافة الإيمان بالحقوق والحريات، مما يجعلها أحد المصادر المشعة التي يأخذ بها الدستور لكي يحافظ عليها ويشملها بالحماية والاحترام بحكم وضعه الأسمى في النظام القانوني.
ولاشك أن الحقوق والحريات العامة تحتل قيمة اجتماعية رفيعة في أفئدة البشر باعتبارها أسمى القيم الإنسانية إن لم تكن اسماها على الإطلاق، فهي ترتبط بهم وجوداً وعدماً، فأصرت البشرية في أطوارها المختلفة على الإيمان والتمسك بها، كما أنها من مقومات الإنسان نفسه ولا يمكن أن تكون ترفاً، إذ لابد من صيانتها، فجميع الثورات والانتفاضات التي قامت بها الشعوب ضد تعسف السلطات الحاكمة، كان الهدف منها انتزاع هذه الحقوق والحريات ومن ثم فإنه في النتيجة تم تسطيرها في نصوص دستورية وقانونية تكفل ممارستها وحمايتها.
إلا أن ذلك لا يعنى أن الدستور حين توضع نصوصه سوف يعطي مسبقاً جميع المبادئ التي تحكم التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ذلك أنه لا يمكن التنبؤ بها سلفاً، فما الذي يضمن استمرار فاعلية القواعد الدستورية وحيويتها في التأثير على سائر فروع القانون؟!، وهل تعتبر الوثيقة الدستورية انعكاساً للحاضر وتسجيلاً لتطور نهائي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟!، وهل هي مجرد توثيق لمرحلة تاريخية؟! وما الذي يعطى للدستور فاعليته فلا يتحول إلى مجرد برنامج سياسي لسلطات الدولة.
وإذا كانت الحماية الدستورية للحقوق والحريات تمثل أهم الدعائم الدستورية للقانون بجميع فروعه حين ينظم العلاقة يبن أفراد المجتمع ويوازن بين هذه الحقوق والحريات وبين المصلحة العامة، فإن تحديد الحماية الدستورية للحقوق والحريات يمثل مشكلة حاكمة في جميع فروع القانون، ولما كانت الرقابة على دستورية القوانين هي الضمان لقيام القانون على أسس دستورية، فإنه يكون واضحاً مدى التلازم بين حقيقتين:
أولاهما: أن تحديد الحماية الدستورية للحقوق والحريات مشكلة حاكمة في جميع فروع القانون.
وثانيهما: أن الرقابة على دستورية القوانين هي ضمان أكيد لهذه الحماية، بل هي ركن ركين في الدولة القانونية، وعلى الرغم من أن الحماية الدستورية للحقوق والحريات تطل على جميع فروع القانون إلا أن القانون الجنائي من أكثر فروع القانون تأثراً بمبادئ هذه الحماية، فهذا القانون يضع الجرائم والعقوبات بما تحمله من سطوة الأمر والنهى والإيلام بالعقاب، و في دولة القانون هناك تدرج للقوانين يطلق عليه التدرج التشريعي، حيث تأتي القواعد الدستورية في المقدمة بسبب مبدأ علوية(سمو) الدستور ثم تأتي بعدها القوانين الصادرة من السلطة التشريعية المختصة والتي لابد أن تكون منسجمة مع القواعد الواردة في الدستور وتليها بعد ذلك الأوامر الصادرة من السلطات التنفيذية والتي تصدر من الجهة المختصة قانوناً ويلزم عدم مخالفتها للدستور والقانون وإلا تم الطعن بها بعدم شرعيتها أو عدم دستوريتها وتكون آثارها باطلة.
إن الغاية الحقيقية من تقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين هو تأكيد مبدأ سمو الدستور، لان ما يتضمنه الدستور من مبادئ تتعلق بالحقوق والحريات العامة، فإنها قد تقررت لمصلحة الأفراد في مواجهة السلطتين التشريعية و التنفيذية، لذلك يصبح هؤلاء الأفراد من أكثر المستفيدين من تقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، و يمكن القول بأن حماية الدستور من خلال الرقابة على دستورية القوانين هي أهم من إعداد الدستور و إقراره، حيث تهدف هذه الرقابة إلى ضمان أن تكون كافة القوانين الصادرة من السلطة التشريعية والأوامر الصادرة من السلطة التنفيذية غير مخالفة للدستور، فهي حارس على الشرعية القانونية وتحافظ على الحدود الدستورية للسلطات، كما تهدف إلى ضمان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وضمان سيادة القانون وكفالة العدالة والمساواة في المجتمع الديمقراطي، وهي من الضمانات الهامة للحرية والديمقراطية.
و إذا أصاب الفساد جسم الهيئة التشريعية نتيجة الصراعات السياسية و الحزبية فإن الرقابة تعتبر هي الوسيلة الأخيرة للأفراد في الدفاع عن حقوقهم، على عكس الحكم الدكتاتوري القائم على حكم الفرد حيث تنعدم هذه الضمانات فتتعرض حقوق الإنسان إلى أبشع الانتهاكات ويتم خرق أحكام الدستور وخرق التدرج القانوني، فتكون الدولة بلا قانون ويسود الظلم وعدم المساواة وعدم احترام القانون، و يؤكد معظم فقهاء القانون الدستوري على أهمية مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، لذلك يلاحظ أن دساتير بعض الدول تنص صراحة على بطلان القوانين التي تخالفها، وهذا يعني أيضاً بطلان القانون المخالف للدستور حتى في حالة عدم النص في الدستور على ذلك،و هذا البطلان يعتبر نتيجة حتمية لفكرة الدستور الجامد الذي لا يمكن للقوانين العادية أن تعدله، فإذا أصدرت السلطة التشريعية قانونا يخالف مبدأً أو نصاً دستورياً في دستور جامد، فإن السلطة التشريعية تكون بذلك قد تجاوزت اختصاصاتها و يصبح ما أقدمت عليه باطلاً لمخالفته الدستور دون الحاجة إلى النص على ذلك البطلان في صلب الدستور.
تختلف الدول في تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، فبعض الدول تمنع الرقابة على دستورية القوانين بشكل صريح، مثال على ذلك الدستور البلجيكي لسنة 1831 و الدستور البولوني لسنة 1921، إضافة إلى بريطانيا، حيث أن نظامها يقوم على مبدأ سيادة البرلمان ومن ثم يتعذر تقييد سلطته أو إقرار أية رقابة على ما يصدره من تشريعات. أما الدول التي تأخذ بالرقابة على دستورية القوانين فإنها تختلف من حيث الجهة التي تتولى الرقابة ومدى ما يمنحها القانون من صلاحيات في هذا الشأن، أسهب جانب من الفقه الدستوري في تحديد أهمية وجود رقابة على دستورية القوانين، إذ يرى الفقيه ((جورج بيردو)) في أهمية هذا النوع من الرقابة بقوله، مادام الدستور هو القانون الأعلى في الدولة فلا مناص من احترامه بما يستتبعه هذا الاحترام من بطلان القوانين المخالفة له، ولما كان من غير المتصور إسناد عملية الرقابة على دستورية القوانين إلى واضعيه، فإنه يتعين وجود هيئة أخرى تختص بإقرار عدم الدستورية وبالتالي الحيلولة دون ترتيب القانون غير الدستوري لأية آثار، كما يؤكد البعض أن أهمية الرقابة هذه تعود إلى مبدأين أساسيين، الأول تحقيقها لمبدأ المشروعية و الرقابة على تصرفات الحكام هي من أهم القواعد الرئيسية في أية حكومة قانونية إذ لابد في كل حكومة عادلة من خضوع الحكام جميعاً رئيس الدولة والوزراء والبرلمان، لمبدأ المشروعية في تصرفاتهم سواء كانت قوانين أو لوائح أو قرارات أو إجراءات فردية، ومن ثم لا يستقيم القول بأن القواعد التي عينها الدستور للسلطة التشريعية لا رقيب عليها سوى ضمير أعضاء هذه السلطة ومسؤولياتهم الأدبية أمام الأمة إذ لا يمكن الأخذ بها في حكومة شرعية ويجب أن تعمل في حدود الدستور وتخضع في تصرفاتها لقيوده وأحكامه.
أما المبدأ الثاني فمؤداه، أن هذه الرقابة من طبيعة عمل القاضي التي تتمثل بتطبيق القانون وإيجاد الحل القانوني للنزاع المطروح عليه وهو ملزم بتطبيق القوانين كما هو ملزم أيضا باحترام الدستور الذي هو القانون الأساسي في الدولة ومن المسلمات انه إذا تعارضت لائحة مع قانون، وجب تطبيق أو ترجيح الأخير لأنه أعلى، وكذلك إذا تعارض قانون عادي مع الدستور وجب إعلاء كلمة الأخير باعتباره القانون الأعلى في الدولة كما ويرى البعض أيضا، إن الرقابة القضائية خاصة التي تمارس بطريق الدعوى المباشرة، تؤدي إلى وحدة الحلول القضائية بشأن دستورية القوانين طالما إن هناك جهة قضائية عليا واحدة متخصصة في ممارسة تلك الرقابة حيث تصدر أحكامها بشأن قانون معين سلباً أو إيجاباً وفي كلتا الحالتين لا يمكن إثارة مسألة دستورية ذلك القانون ثانية لان قرارها يتمتع بحجية مطلقة لكونه يسري تجاه الكافة وهكذا يظهر لنا جليا أهمية وجود الرقابة القضائية على دستورية القوانين باعتبارها من الوسائل الرئيسية التي يمكن بواسطتها ضمان احترام ونفاذ القواعد الدستورية وتضمن أيضا صدور القوانين من السلطة التشريعية في الإطار الدستوري دون أي إخلال أو تعدي، وهذا بلا شك يحقق في النهاية احترام الحقوق والحريات العامة التي عملت التشريعات الدستورية على كفالتها ومن ثم يجب أن تأتي القوانين محكومة بما تحدده الدساتير من أحكام وضوابط في هذا الصدد.
--
دكتور في الحقوق و خبير في القانون العام
د. عادل عامر
الرقابة الدستورية علي القوانين ضمانة للحقوق والحريات 3976