والواقع أن مفهوم القداسة المتعلقة بالتصرفات الملكية بهذه المعاني والنتائج تجعل الحائز عليها متمتعاً بحصانة مطلقة في كل أقواله وأفعاله، و تدفع البعض إلى إثارة وجود ثيوقراطية في ممارسة السلطة ولو تلميحا ًلا تصريحا، مما يثير انتقاداً له من جهة عدم ملاءمته مع الطبيعة النسبية للسلوك السياسي الإنساني الذي يحتمل الخطأ والصواب ومقتضيات الديمقراطية، ومن جهة تعارضه مع التأويل الديني السني للحكم ، بما هو تأويل يرفض فكرة عصمة تصرفات الحاكم في جوهرها.
بيد أن هذا الانتقاد الافتراضي يمكن الاعتراض عليه بالتأكيد على ضرورة النظر إلى أهمية الدلالة الدستورية المحصنة لتصرفات محددة للملك في نطاق الدستور والمصلحة العليا للبلاد على أنها تشكل قاعدة جوهرية تنسجم مع واقع التجارب الدستورية الديمقراطية و تساهم في حفظ الاستقرار السياسي لما تضفيه من رمزية ومكانة خاصة تليق بالمقام التحكيمي المفترض للملكية وتبعد عنها الصراع والمزايدات السياسية.
وقد بات من الواجب العصري والديمقراطي وتماشياً مع الإرادة الملكية السامية الجرأة في تحجيم نطاق التصرفات والأعمال التشريعية والتدبيرية للملكية تقديرا لعبئ مسؤوليتها التي تسمو على تقلبات الزمن التشريعي والتدبيري و لصالح إقرار وتكريس المسؤولية السياسية والإدارية لباقي الفاعلين وتمييزها عن بعض المجالات والأعمال المحفوظة للملك والتي لا غنى عنها في كل الأحوال لتحقيق استمرارية سمو الثوابت الوطنية وتوسيع نطاق المحاسبة ورفع الحجب التي يمكن التحصن بها للإفلات من المحاسبة والعقاب.
ولئن كانت فكرة حصانة بعض الأعمال والتصرفات الدستورية الملكية الضامنة لرمزية التحكيم وحفظ حقوق وحرية الجميع ، بغض النظر عن تباين المواقف في تصور نطاقها، تحظى بإجماع غالبية القوى السياسية وقبول طوعي وتلقائي في المطالب الدستورية و السياسية الوطنية، فذلك لما تتميز به من صلابة دستورية وضرورة سياسية لا محيد عنها في كل الأحوال لاستبعاد المسؤولية السياسية للملك مقابل إبراز المسؤولية السياسية للوزير الأول باعتبارها حجر الزاوية ونقطة ارتكاز النظام البرلماني الديمقراطي. إذا رصدنا الاتجاهات الأساسية للفكر الديني المعاصر وتياراته الفرعية والذي ينطلق من الإسلام عقيدة وشريعة ولكنه مرتبط بمعطيات الواقع التاريخي التي صاغت موضوعاته ومناهج نناوله ونميز في هذا الفكر فكر السلطة وفكر المعارضة.
فالمفكرون السلطويون عولوا على مناهج الإتباع والسمع والنقل بهدف التبرير لسياسة الأمر الواقع وتكريسه واعتبار الخارجين عليه ملاحده وأهل بدع وضلالة أما مفكري المعارضة فقد ظهروا بمناهج عقليه ونقدية ومقاصد كامنة في التغيير. والإسلام شهد قرنيين يتيمين..القرن الأول من منتصف القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الثالث الهجري وفيه تدوين العلوم وتكوينها أما القرن الثاني فهو من منتصف القرن الرابع الهجري حتى منتصف القرن الخامس الهجري وفيه أزدها العلم والفكر الإسلامي.
وبعدها دخل فانمحى الانهيار وعصور الانحطاط ـ حسب وصف ابن خلدون ـ وهو العصر الذي استمر حتى بدايات العصر الحديث ففي هذا العصر تدهور الفكر عموما والفكر الديني خاصة فغلب النقل على العقل والإتباع على الإبداع وتفشى التقليد وترسخ الجمود وتحجر الفكر الديني واختزل في الغزالي وهو توليفه من الاشعريه والشافعية والتصوف بل اكتسبت هذه الصيغة التي ورثها ودعمها المفكرون السلفيون نوعاً من (القداسة)بحكم سيادتها وتداولها وتواترها. وجرم الاتجاه العقلاني واعتبر بدعا وضلالات.
ومع بدايات العصر الحديث ونجاح محمد علي في تكوين دوله مدنيه والتي مهدت لها الحملتين الفرنسية والانجليز يهتهاوت سلطة الاتجاه الديني السلفي وبات إرهاصات الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوى، إلا أن هذا الاتجاه وئد لإخفاق تجربة محمد على واكتساح الاستعمار للعالم الإسلامي تاريخ ثقافتنا العربية والإسلامية يمتلأ بالثغرات الجزريه القاتلة وتربى على ميراث مؤلم في عناصر ألامه الثلاث، السلطة السياسية والصفوة والموطنين تربى على ميراث المقايضة مقايضة العدل بالحربة مقايضة تحرير الوطن بحرية المواطن. لم يتربى على أن الغايات الثلاث (العدل ،تحرير الوطن ،حرية المواطن).هي حزمة واحدة لا تصلح واحدة بدون الآخرين. فكانت السلطات الحاكمة تقايض شعوبها وكانت الصفوة تقبل والشعوب تقبل . كانت مقايضة عمر بن الخطاب أقيم العدل،والدولة الإسلامية وآخذ الحرية، مقايضة صلاح الين الأيوبي أحرر الوطن وآخذ الحرية، مقايضة المنصور أحمى دولة الأندلس وآخذ الحرية، مقايضة محمد على أقيم الدولة الحديثة وآخذ الحرية . مقايضة سعد زغلول اسعي لليبراليه وآخذ العدل الاجتماعي مقايضة عبد الناصر أحرر الوطن وأقيم العدالة الاجتماعية وآخذ حرية المواطنين، مقايضة السادات أعطيكم الحرية وآخذ العدالة الاجتماعية. ومقايضة صدام حسين أعطيكم الدولة القوية وآخذ الحرية، والمثير حقاً إن الصفو المثقفة والشعب كانا يوافقان على هذه المقايضة للأسباب التالية -إن السلطات الحاكمة كانت دائماً تضع الصفوة المثقفة والشعب في هذا الخيار الصعب لان هذه السلطات لم تكن قادرة ولم تكن راغبة على انجاز مثلث التحرير والعدل والحرية . -إن وعى الصفوة المثقفة والشعب كان في معظم فترات التاريخ وعيا جزيئيا.أي غياب الوعي التركيبي أو الوعي الجدلي لدى العقل العربي. -يأس الصفوة والشعب بسب التراث الطويل من القهر والفقر والاحتلال من أن تتحقق الغايات الثلاث.
والملاحظ أن التراث الطويل من سريان هذه المقايضة الشائنة قد رسخ لدى الوعي العربي/ إن الديمقراطية أو حرية الفكر والاعتقاد هي الضلع من المثلث. لاسيما إذا رافق ذلك خطاب ديني تروجه السلطة يطلب من الناس أن أطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم .
وبعد عصور طويلة ترك الصفو المثقفة والشعب إن الديمقراطية و حرية الفكر هي الضلع الذي إذا غاب انهار الضلعان الآخران. فنخسر جميعا تحرير الوطن والعدل الاجتماعي وحرية المواطنين...
في هذا السياق تتعلق بمجال كل من الدين والسياسة والمبادئ التي يستند إليها كل منهما, وضرورة كل منهما للوجود الإنساني الفردي والجماعي فالأول أي الدين يمثل مستودع الكليات الأخلاقية والروحية والقيم الكبرى المتمثلة في التكافل والتراحم والمساواة والعدل كما أن الدين أيضا يقوم بصياغة الأجوبة علي الأسئلة الوجودية الكبرى في حياة البشر حول الحياة والبعث والحساب والثواب والعقاب وغاية وجود الإنسان علي ظهر هذه البسيطة والمتمثلة في أعمار الكون وعبادة الخالق وهذه الأسئلة الكونية الكبرى لا يستطيع العلم رغم تطوره الإجابة علبها بل لا تدخل هذه الأسئلة بالضرورة في مجال العلم ذلك أن العلم يهتم بالمجالات الطبيعية التي يمكن استخدام منهج التحقق التجريبي في إثبات قوانينها وطبيعتهما وطبيعي أن مثل هذه الأسئلة تخرج عن نطاق التحقق التجريبي وتدخل في باب الاعتقاد والإيمان الذي يفترض التسليم والاقتناع بقدرة الخالق ومعرفته المطلقة وعلمه اللدني السرمدي.
أما السياسة باعتبارها إدارة شئون البشر الاقتصادية والاجتماعية والقانونية الثقافية فهي تتعلق بأسئلة مثل تنظيم الحياة السياسية وصياغة التشريعات والقوانين وتنفيذها وتطبيقها علي الجميع واختيار أفضل السبل لترقية حياة الجماعة الوطنية وترسيخ سلطة الدولة والقانون وتحقيق العدل.
ومن ثم فالسياسة شأن كافة المواطنين الأحرار القادرين علي المشاركة في صياغة الطريقة التي يديرون بها حباتهم والتنظيم الأمثل الذي يكفل لهم الاستقرار والأمن والحماية والتوزيع العادل لموارد الثروة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، لكن المشكلة قابعة في تصرف عناصر تلك الحركات ومناصريها الذين تقودهم العاطفة على حساب العقلانية فيعتقدون أن من يحالف أو لا يناصر حركة إسلاميه إنما هو لا يناصر الدين ويعارض شرائع الله وهذه هي الطامّة ألاجتماعية وهذا هو السقم السلوكي، من الخطورة، آذن اختزال الدين في حركة أو في حزب.
والأخطر هو منح أي منهما صفة القداسة فتصبح كأنها في خانة المحظورات الدينية التي لا يجوز مسّها أو الاقتراب من تخومها بكلام ناقد. وهي الخطورة ذاتها التي تشكلت بأيدي البشر أنفسهم حين منح الكثير منهم صفة القداسة لرجل دين أو مُفتٍ، فنظروا إليه على أنه فوق النقد كما هو حاصل بشكل جليّ مع مرجعيات دينيه وولايات الفقيه التي يُنظر إليها على أنها لا نخطئ وأن كلامها من الفرائض لا ريب في أن احترام الشخصيات الدينية والحركات والأحزاب الإسلامية واجب طوعي لكن ليس من الواجب عدم النقد مثلما ليس النقد واجباً إنْ لا وجوب له. والنقد لا يعني عدم الاحترام مثلما الاحترام لا يتمثل في عدم النقد وعدم النقد لا يعني الطاعة.
د. عادل عامر
القداسة الدينية والقداسة الوطنية 2419