المحطة الثانية: إن حياة الحوار لا يمكن أن تدب في الجسد اليمني إلا إذا تم تحييد الخطاب الديني والوطني ليكونا لصالح الأمة، فلا يوجد صكوك غفران، ولا صكوك حرمان، لا باسم الوطن، ولا باسم الدين، الذي يريد يتمذهب بأي مذهب فقهي يتمذهب لكن ليس من حقه بحال من الأحوال أن يفرضه على الناس بالقوة، أو أن يدعي أنه الدين أو مذهب آل البيت فآل البيت علماء في كل المذاهب الإسلامية، فيجبي الأموال غصبا، ويقتل كل من يخالف رأيه، فهذا أمر يتنافي مع العقل والدين، والذي يريد يتحزب يتحزب لكن ليس له الحق أن يعتبر نفسه الوطن والآخرون ليسوا وطنيين، أو الدين والآخرين غير دينيين.
لقد مرت بلادنا بفترة بؤس الاستبداد البغيض فكان يقال لمن يقف مع رأي الرئيس وحزبه أنه مع الوطن، وأن من يخالف رأي الرئيس وحزبه فهو مخالف للوطن، وللدين وغير وطني، وتلصق به التهم، واعتباره خارجيا ينفذ أجنده من الخارج، يجب أن نضع حدا لهذا التماهي الاستبدادي بين رأي المسئول والدين أو الوطن، الدين شرع الحق تعالى المحقق للحق والعدل، والوطن وطن الجميع بكل فئاته وأطيافه بكل ما لديهم من رؤى سياسية ومذهبية في ظل إخاء يرفض الاعتداء، ويدين المعتدين، ويجرم من يمارس العنف.
إن على الخطاب الديني أن يحيي فينا معاني الأخوة الإسلامية القائمة على التقوى لا على نسب ولا حسب، إن أولياؤه إلا المتقون، وعليه أيضا أن يضع النقاط على الحروف في عصمة الأموال والأعراض والدماء، وأن يرفض تماما فتاوى القتل، فالقتل لا يكون خارج القانون، القتل مهمة القاضي وبحكم قضائي من خلال محاكمة عادلة، من قاض نزيه، وعلى الخطاب الوطني أن يفصل تماما بين الوطنية وموافقة الرئيس في رأيه الوطنية تحددها مصلحة الوطن، والرئيس ليس أكثر من بشر يخطيء ويصيب ومن حق أي فرد أن يوافقه أو يخالفه ومن واجب الرئيس أن يحمي هذا الحق على قدم المساواة للمؤيد والمعارض، من الخيانة للوطن اعتبار الوطنية موافقة رأي الرئيس هو عين الوطنية وأن مخالفة رأي الرئيس ينفي عن صاحبه صفة الوطنية، ومن خلط الأوراق اعتبار من يرى رأيا غير الرأي السائد مطعون في وطنيته، لأن هذا يجعل الناس تحجم عن البوح بقضايا بصراحة من غير اضطهاد لأي رأي، ويجب التفريق تماما بين الرأي وصاحبه فمن المعيب مهاجمة الأشخاص في أي حوار بل يجب أن ينصب الحديث عن الآراء وعن المضمون، ومن المهم التأكيد أن الضامن الأساسي للحوار هو قبول الحق من أي طرف، والأخذ بالرأي الذي يحقق المصلحة الوطنية ممن كان، وبدون ذلك تكون الحوارات مجرد تحريك شفاه تثير الإحباط.
إن على العلماء أن يعيدوا هيبة الاعتداء على النفس وحرمة الدم وعظيم جريمة الاعتداء على العرض في حياتنا اليوم يقتل اليمني في شمال البلاد باسم الدين، وفي جنوبها باسم الدين، وهنا وهناك تظهر أصوات لا تبالي بالدماء، ولا تخاف في الأعراض، ولا تبالي بأخذ الأموال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بنى المجتمع المتآخي المتراص.
إن العلماء أولى الناس في الحفاظ على هذا المجتمع بتلك الأسس النبوية، وفي قدرتهم أن يكونوا أدوات تجميع، أو أدوات تفريق، وسيكون ذلك كله باسم الدين، وإننا نطلب منهم بما أخذ الله عليهم من العهد أن يجمعوا الأمة وأن لا يكونوا وسائل في أيدي السلطة بل أن يقوموا بواجبهم في رأب الصدع، ولم الشمل، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وبث روح الإخاء، ونشر ثقافة الابتسامة، تبسمك في وجه أخيك صدقة، وبسط نفوذ المنفعة لكل أحد من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل، وأحب الناس إلى الله أنفعهم، وأن يجتهدوا بكل ما لديهم من قوة في تثبيت الناس على الكف عن العدوان باللسان واليد فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وبهذا يتحقق للمجتمع بناء الصورة الاجتماعية التي مزقتها ممارسات الاستبداد فرق تسد والتي فرقت الناس شيعا وأحزابا، يحارب بعضهم بعضا تارة باسم الدين والمذهبية، وتارة أخرى باسم المناطقية والسلالية.
وعلى المثقفين أن يكفوا عن التزييف فليس المطلوب منهم تسويق رؤية النظام السابق أو اللاحق، وظيفتهم انتصار الوعي للحمة الوطنية، ورفع الصوت بثقافة التعايش لا الإقصاء، والمناداة بتحكيم العقل ورفض صوت البندقية، ومن يتكلم منهم باسم منظمات المجتمع المدني عليه أن يدرك مهام المجتمع المدني في احترام الأحزاب والثقة في مكونات البنية اليمنية بكل أطيافها، وأن يجنب خصوماته التاريخية مع هذا الطرف أو ذاك.
إن بعض المحسوبين على هذه المنظمات يقدم هاجس الخوف من الإسلام وكأن الإسلام بعبع يحطم الأخضر واليابس، وليس دين الله الذي يدين به اليمنيون في طول البلاد وعرضها، وبالتالي فالمثقف الطليعي هو من يقود المجتمع نحو الاشتباك مع المستقبل لتحقيق العدل والمساواة والحرية وإرساء مبادئ السلام ورفض العنف بكل صوره، وليس من مهمته بحال أن يتجمد على رأي إذا رأى أن غيره خيرا منه، بسبب من ثقافته التاريخية وولائه القديم لأيدلوجية معينة.
إن مهمة المثقفين الأساسية أن يكونوا صوت الضمير الحي، في هذا البلد، الضمير الذي يقف إلى جانب المظلوم ليسترد حقه، وإلى جانب الظالم لأخذ الحق منه، وبهذا تزول مظاهر الهنجمة والتسلط، فالضمير الواعي الذي يمثله المثقف سيكون بالمرصاد لمن يحاول فرض هيمنته بالباطل على الناس، فإذا غفل المثقف عن هذا وتحول إلى أداة للشتيمة فقد خرج عن دوره إلى دور آخر لا يمت إلى الثقافة والوعي بصلة، بغض النظر عن الألقاب التي تمنح أمام اسمه.
إن الحوار يحتاج إلى بصمة المثقفين اليمنيين التي تنهض بالدولة المدنية في وضع مفرداتها العدالة والمساواة والحرية والفصل بين السلطات ...الخ لا في الجدل العقيم حول المصطلحات ونشأتها، فما يغيب عن الوطن هو العدل في السلطة والثروة والشراكة الوطنية، وما يحتاجه الوطن هو ثقافة الحقوق والواجبات التي تجعل كل فرد في هذا اليمن لبنة صالحة في بناء اليمن، وخلية حية وحيوية ونافعة في الجسد اليمني العظيم، وهذا دور المثقف في الدفع بالمنيين أفرادا وجماعات إلى أداء الواجب بإتقان فنحن جميعا مدينون لليمن، ولليمن فضل علينا، والحوار في ظل الوعي الذي يمارسه المثقفون يرفع سقف حياتنا للمستقبل، فالمثقف يمثل دور الرائد الذي يرتاد المستقبل ويقود أمته إليه.
د. محمد عبدالله الحاوري
تحييد الخطاب الديني والوطني لصالح الأمة 2298