يمثل رمضان المبارك انتصار الإيمان في أرقى صوره، حيث تنتفض الروح مستجيبة لنداء الله، ويخضع الجسد لأمر الله، وتسير الحياة بالعبادة المحضة لرب العباد، ويمضي الصائم بين صيام وقيام وذكر وقرآن ونفقات وصلة أرحام، فتتحرر الروح متنقلة من خير إلى خير بين فروع العمل الصالح وألوان الطاعات وأنواع القربات.
انتفاضة الروح من متطلبات الجسد، فالرغائب الجسدية لا تستطيع حجب الروح عن الفعل الإيماني حين توجد القوة الإيمانية، حتى لو كانت تلك الرغائب هي الرغائب الأساسية الطعام والشراب والنكاح، وبذلك تتفوق روح المؤمن على متطلبات الجسد كافة ليتعلم المؤمن الموحد أن الاستجابة لنداء الله والالتزام بأمر الله والطواعية في تنفيذ الأحكام الشرعية هو الطريق الوحيد الجالب للسعادة، والجاب للعون الإلهي، وهنا أدعوك سيدي القارئ الكريم إلى تأمل حالك لو تركت الطعام والشراب هذه الساعات كلها بدون نية الصيام لوجدت مشقة وعناء وتعباً وربما أصابك الصداع، وشعرت بالإرهاق الجسدي، ولكنك في الصوم تجد عوناً إلهياً، يقويك للقيام بطاعة الله عز وجل.
انتفاضة الروح في مسابقتها إلى الطاعة ففي رمضان تتجسد المنافسة الإيمانية في صورة لا تكاد تتكرر في غيره من العام، هذا التنافس هو المظهر الأهم للمؤمنين الأخيار في رمضان فتراهم يتنافسون ويتعاونون على البر والتقوى، وهذا التنافس الرمضاني يثمر في القلوب إدراكا أساسيا للاغتنام الفرصة، ويقود المؤمن إلى ما هو أبعد أثرا في حياته ليخرج من مدرسة رمضان وقد استشعر التنافس طوال الوقت.
ورمضان انتفاضة روحية تتعلق بالتوبة وانتفاء الموانع، فأما التوبة فإنها بوابة السير إلى الله {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وهي أيضاً العلامة الكبرى لأولياء الله وأحبابه {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وتجعل التوبة صاحبها كمن يسدد ديناً عليه فتبرأ ذمته، وكمن يعالج نفسه فيشفى من مرضه، حتى لا يكون مثل المفلس الذي يأتي بأعمال كثيرة من الخير لكن عليه حقوق أكثر منها للعباد فتستغرق حقوق العباد كل حسناته ثم يأخذ من سيئاتهم ويطرح في النار والعياذ بالله، فرمضان فرصة حقيقية لمراجعة السجل الحياتي، إن التوبة تعني رد المظالم، والتحلل من حقوق العباد بردها أو طلب المسامحة منهم، وبالندم الصادق والعزم الأكيد على عدم الرجوع إلى المعاصي والمظالم وبالإقلاع عن الذنب، وفي شفافية الروح الرمضانية وانتفاضتها الإيمانية زاد لمن يريد تحقيق التوبة.
وأما انتفاء الموانع فيقصد بها تلك الأعمال التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع" فتلك الأعمال المانعة هي الخطر الكبير، لأنها تفسد العمل وتفقده قيمته، وفي الأثر الصوم جنة ما لم يخرقها" فالصوم درع ولكن هذه الدرع إذا خرقها صاحبها قد لا تمنعه ولا يستفيد منها، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا بقوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وهذه الموانع تشمل الأفعال كما تشمل الأقوال وتشمل المظالم بأنواعها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص أعمالا بعينها، يأتي الزور وهو الكذب على رأسها، فالكذب واستماع الكاذبين ومتابعة وسائلهم الإعلامية ونشراتهم الإخبارية وتزيفهم للأمور، ونقلها وتلقيها بالقبول، وتصديقها، وما تحمل فيه من شبهات وأباطيل، يتنافى تماماً مع الروح الرمضانية التي تدع الطعام الحلال ابتغاء رضاء الرحمن ذي الجلال، فكيف تقول الكذب أو تتبع الكذابين.
إنها النبوة المحمدية اختارت قول الزور والعمل به لتأكيد نهي الصائم عنه من بين الكبائر الكثيرة والمعاصي بحقيرها وجليلها لتضع الأمة المسلمة على طريق النجاة، ولتجعل الأمة على بينة من أمرها لا خير في العمل مهما كان عظيما حتى لو كان الصوم الذي قال الله عنه في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به" إذا استمر قول الزور والعمل به ساريا في الحياة، انتفاضة الروح تقتضي أن نكف عن الكذب بكل أنواعه وأشكاله، وأن نكف عن العمل به، فنغلق نوافذه الإعلامية، ونترك مجالس الزور التي يزينها، وأن نقول لوسائله ومروجيه: اللهم إني صائم اللهم إني صائم.
إن رمضان انتفاضة روحية إيمانية كبرى تتمثل مظاهرها في الحياة القرآنية وفي مجالس العلم الإيمانية، وفي أعمال البر المالية، وفي المكث في المساجد، وفي صحبة أهل الخير ومنافستهم فيه، وهكذا تتنعم الروح بالمائدة الرمضانية الروحانية الإيمانية، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المقبولين.
د. محمد عبدالله الحاوري
رمضان انتفاضة الروح وانتصار الإيمان 2340