تساءل يوماً شاعر اليمن الكبير/ عبدالله البردوني ـ رحمه الله ـ ذلك التساؤل الانكاري التوبيخي الذي جمع بين النقيضين..عندما صدح وغرد واصفاً صنعاء ويقصد من خلالها اليمن كلها كون العاصمة هي العنوان..
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبت × مليحة عاشقاها السل والجرب
لأنه في ذلك الزمان لم يجد ما يوصف به صنعاء غير هذا الوصف المتميز والمبدع المشاهد لصنعاء من خلا البصيرة لا البصر...ونظرة البصيرة أكثر عمقاً وتأملاً وتفرداً من نظرة البصر التي يمكن أن تكون سطحية وأقل شمولية.. ترى لو أن البردوني اليوم حيا وطلب منه أن يعيد صياغة شعره أو يضيف إليه واصفاً الحالة فإنه سيصف صنعاء بالمليحة ولكنه سيغير "العاشقان" ولكنه سيضف بديلاً منهما عشاقا...لأن السل انتهى أو كاد بفعل مركز الدرن الذي بني في صنعاء لمكافحة السل والذي تم تقديمه كهبة أو منحة لا أتذكر من أي دولة من الدول أو منظمة من المنظمات..وإلا لكان السل يبيض ويفرخ وينشر فيروساته بكل أريحية خصوصاً مع النكسة الصحية في العهد الصالحي...وكذلك العاشق الآخر (الجرب) فقد رحل بفعل الأمصال واللقاحات التي قدمت لليمن ضمن خطة عالمية هدفت لتخليص العالم من هذا المرض وكانت اليمن جزءاً منها....ولحسن الحظ لم تكن يوم ذاك الوزارة والوزراء اللصوص خبراء استيراد الأمصال واللقاحات الفاسدة في دولة التحديث كما يسمونها أو يطلقون عليها أصحاب قناة (اليمن اليوم) وإلا لباعوا الأمصال واللقاحات وأدخلوهما عالم السمسرة ولظل السل والجرب في اليمن دون غيرها العاشقين اللذين لا يفارقا صنعاء وكل اليمن...بالتأكيد لو كان الشاعر الكبير اليوم حياً فانه سيضيف الكثير من العشاق ولو جاز لنا أن نعبر ولو ركاكة أو شعراً مشوهاً يعكس الحالة ويشبه الواقع.. ولا يعكس نبوغ الشاعر وبلاغته..
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبت ِ× مليحة عاشقاها النصب والنهبِ
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتِ :منكوبة بيد السراق هم نكبُ
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتِ:مليحة عاشقاها الدجل والكذبُ
وقد لا يتوقف الشاعر عن التساؤل والحيرة والألم ماذا أحدث عن صنعاء؟؟وسيظل يكررها حتى يشارك رئيس الوزراء الأستاذ باسندوة البكاء وذرف الدموع من على المنصة وعلى رؤوس الاشهاد على الوطن الذي أثخنه الجراح.والفساد والعبث....
إضافةً إلى الأمراض التي كانت تفتك بصنعاء وأخواتها وتشوه حسنها وجمالها وتقلل من زهو بهاءها في عهد الإمامة فإنها في عهد الزعامة أضيف إليها النهب والسرقات والرشوات فشوه مابقي جمال باطني للبلاد وأصبحت صنعاء على رأي المثل (من خارج الله الله ومن داخل يعلم الله)....قصور بيضاء وحمراء...وفلل صفراء وخضراء لا دليل على الرفاه الإجتماعي ولكن دليل على رفاهية أصاحبها وفقر من سواهم....
أما لو تكلم من يحكي أو يروي القصص الشعبية عن صنعاء وما فيها فإنه سيبدأ الحكاية بالشعر المعهود والمردد على الألسنة.
صنعاء لأهل الملك طيبة : والكادحون لهم الهم والنكدِ
ولئن قيل الشعر في زمن سابق فقد قيل ببراءة وعفوية لم يكن فيه أي من الوصف السياسي... وإنما وصف صاحبه حالة الأغنياء الذين تطيب لهم صنعاء وتحييهم في العيش الرغيد ولم يكونوا يومئذٍ سوى التجار أو بعض السلاطين الذين امتلكوا قليلاً من المال أو الكسور مما هو اليوم في أيدي التجار وشركاءهم الفجار...ولوأن صاحب الشعر اليوم موجود لأضاف أو بدل شعره قائلا:
صنعاء لأهل السرق طيبة....والمخلصون لهم الهم والنكدِ
لأنهم اليوم قليلون وقليلون جداً من ينعمون بخيرات صنعاء من كد عرقهم وتطيب لهم صنعاء بقدر معلوم ومحدود لأنهم حريصون على أموال جمعوها أو ورثوها بكدهم أو بكد آبائهم....ولكن الكثيرين الذين تطيب لهم صنعاء هم لصوص المال العام الذين يهدرون الأموال ويعيشون بذخ الملوك والمسرفين وملاك نوادي القمار في عواصم دول العالم الغنية.....ذكرني صديقي المقولة وهو يطوف بي شوارع حدّه في غابة الفلل لحظة كان يهز رأسه ساخراً ضاحكاً باكياً وعيناه تزوغان بين أحواش الفلل وقبابها ونقشاتها وزخرفاتها وهو يردد بامتعاض غير خفي :
صنعاء لأهل الملك طيبة : والكادحون لهم الهم والنكدِ
ظل يردد البيت مراراً وتكراراً مع هزة الرأس كأنه دخل حالة الوجد الصوفي ولم يتوقف أو تهدأ حالته حتى خرجنا من المنطقة مسرعين فارين من القصور إلى الأحياء المكتظة الشبيهة بالقبور....عندها توقفت الحالة التي تشبه حالة المس عند صديقي وعاد إلى هدوئه ونحن نسلك الأزقة بين باب اليمن وشعوب وللكلام بقية بين الهم والنكد..
علي الربيعي
ماذا أحدث عن صنعاء.. 2600