في الأسبوع قبل الفائت بدأت امتحانات الشهادتين الأساسية والثانوية، وبدأ حصاد العام الدراسي (الكسيح) يتضح متوجاً بحصاد مرٍّ وقيم منهارة.
عام دراسي فاشل، حيث معظم التلاميذ مر عليهم الفصل الدراسي الأول دون تعليم، يبحثون عن مواقع بديلة لمدارسهم التي سكنها النازحون، وآخرون انتقلوا إلى مباني لا تستطيع البقاء فيها لدقائق نظراً لازدحام التلاميذ ونقص الأثاث وانقطاع الكهرباء وانعدام الحمامات، وآخرون لم يدرسوا إلا ثلاثة أيام في الأسبوع، ومقررات دراسية أعطيت للطلاب بطريقة (سلق البيض)، أضف إلى ذلك الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة، حيث كان التلاميذ ضحاياها حين استقطبوا لأنشطة لا علاقة لهم بها على حساب تواجدهم في مقاعد الدراسة.
في الأسبوع قبل الفائت كان حصاد كل ذلك، حيث انتهكت التربية وتمرغ التعليم بالوحل من أول يوم امتحاني على أسوار المدارس وساحاتها وفي القاعات الامتحانية وبمختلف الوسائل ابتداءً بأنواع (البراشيم) وطرق الغش المختلفة إلى الأسلحة والقنابل الصوتية والبلطجة و.... إلخ، حيث كان عدد المتسللين إلى بعض المراكز ضعف عدد التلاميذ الممتحنين وكلٌ يشهر سيفه ويصوب سهمه للقضاء على ما تبقى من هيبة للتربية، ومن قيمة للتعليم، ومع انقطاع التيار الكهربائي والرطوبة الشديدة، كان المشهد قد اكتمل مأساوياً.
آباء وأمهات وأقارب وأصدقاء و شرائح مجتمعية مختلفة ومعلمون وتربويون وحراس المراكز وعمالها من مراسلين ومنظفين وووو...إلخ الكل تواجد صباحا لكي يرسموا لوحة بائسة لنهاية عام دراسي بائس، وجنازة لما تبقى من قيم، في مشهد مقزز احتلت عدن من خلاله المرتبة الأولى في الغش.
لا أدري ما إذا كان كل هؤلاء اعتقدوا بأنهم بذلك يصنعون النجاح، ويرسمون مستقبلاً مشرقاً لأبنائهم وأقاربهم وأصدقائهم بسلاح الغش، و ينحتون على جباههم شروط النجاح وخط سيرهم المستقبلي باعتبار الغش في الامتحانات يعدُّ التجربة الأولى للغش في الحياة.
حقيقةً نحن بحاجة لفريق متكامل من المحللين النفسانيين والاجتماعيين ليقولوا لنا لماذا يحدث كل ذلك؟ وأي ثقافة تلك انتشرت وانتقلت من السلوك الفردي إلى السلوك الجمعي؟.
عندما يتسلل أب أو أم إلى مركز امتحاني لتوصيل (براشيم) لابنه أو ابنته أو يكتبوا الإجابات نيابة عنهم، قل على القدوة السلام.
وعندما تجد دكتوراً في جامعة على باب مركز امتحاني يستعطفك إدخال أجوبة لابنه أو ابنته يحق لك بعد ذلك أن تضرب كفاً بكف مندهشاً لما جرى ويجري.
عندما تتصل بك أم إلى المركز الامتحاني وهي تبكي تستحلفك أن تساعد ابنها على الغش اترك دافع الأمومة جانباً وابحث في اتجاه آخر علك تجد الإجابة.
عندما يتجمع التلاميذ في ساحة المدرسة مهددين ومتوعدين بالويل والثبور إذا لم تصلهم أجوبة نموذجية خلال ساعة، اهرب ألف ميل حتى لا تصاب بالضغط والسكر وربما بالسكتة.
عندما يتحول الغش إلى حق بمنطق الأغلبية وكلٌ مستعد أن يقاتل لنيل هذا الحق، أعد قراءة حقوق الإنسان ربما هناك بند لم تستوعبه.
عندما تتحول الامتحانات إلى موسم كسب لضعاف النفوس من تربويين وغير تربويين تذكر أن ما من عمل ناجح غاب عنه مبدأ الثواب والعقاب!!.
عندما يغادر التلاميذ القاعات الامتحانية بعد ( مهرجان ) الغش ولا يكتفون بذلك بل يدمرون كل شيء في طريقهم طاولة وكرسي ولوح الطباشير وأدوات الإنارة والمراوح وووو... إلخ، عليك العودة لعلم النفس، حيث باستطاعتك أن تصنع نموذجاً لصورة عدوك وتوسعه لعناً ولكماً وركلاً، لتفريغ شحنات الغضب لديك، حتى تستطيع إعادة توازنك النفسي. ولكننا هنا أمام عدو من نوع آخر لعبت السياسة والتعبئة والإحباط والفشل في جعله بمثابة العدو وهو ( السلطة ) بمعناها المجرد، فكان هذا التدمير وهذا التفريغ الموجه للذات وللآخر بوسائل شتى.
يصعب على أي فرد استيعاب ذلك ولكن هذا ما حصل بالفعل خلف أسوار المدرسة في الأسبوعين الفائتين أثناء الامتحانات الفاشلة للعام الدراسي الفاشل.
حقيقةً أنا ضد نظرية المؤامرة لأنها تبرر عجزنا وتبرئ إخفاقاتنا، وتقلل من شأننا ومن قدراتنا ومن ثقتنا بأنفسنا وتحولنا إلى ضحايا سذج أمام الآخرين.
دعونا نواجه الأمر ونتحدث بصراحة نحن بحاجة إلى خطة ( مارشال ) لإنقاذ التربية والتعليم في عدن حتى لا نسهم بخلق أجيال تعيدنا سنوات للخلف، ولنبدأ البحث عن آلية جديدة للامتحانات النهائية ونولي التعليم جل اهتمامنا ونعدُّ ذلك من الأمور السيادية.
نعم الغش قتل اجتهاد المجتهدين وأحبط تطلعات المتفوقين، بل وأهدر جهودهم وسهرهم في المطالعة والمذاكرة، بل وحولهم إلى ضحايا يتجاذبهم الآخرون في قاعات الامتحان ليسلبوهم جهداً بذلوه طيلة العام الدراسي.
الغش كارثة التعليم في عدن، وخيبة مدينة كانت مثالاً يحتذى في الانضباط واحترام التعليم وهيبته.
فؤاد عبد القوي مرشد
عام دراسي كسيح وامتحانات فاشلة 1966