قد سجِّل غياب دور المثقف العربي قبل الربيع العربي مع شبه حضور له أثناء الثورات الشعبية التي أطاحت برؤوس الأنظمة، لكن ماذا عن دوره في مرحلة ما بعد الثورات؟ كل حراك يفرز مثقفيه، فالثورة الفرنسية مثلاً والتي أجبرت الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول على الاستقالة، أفرزت مفكرين جدد وأخفت آخرين.. فهل هذا هو واقع الحال في الدول العربية؟ المتابع لمشاهد الحراك الشعبي في البلاد العربية يجد أن بعض النخب المثقفة تفاعلت مع الثورات بعد أولى أيام اندلاعها، وكانت حاضرة بفكرها وأحاديثها وحتى تواجدها الفعلي في الميادين مكسرة بذلك حاجز الصمت والقهر الذي عانته لسنين طويلة.. وهناك بالمقابل فئة أخرى جديدة ركبت الموجة وتناغمت مع إرادة الجماهير، وتفاعلت مع مطالبها، وشاركت نصر الثوار في كتاباتها ولقاءاتها، ولبست حلة الثورة ونجاحاتها، لكن تأثير هذه وتلك لم يرتقي بعد إلى لعب دور قيادي يوحد الشعوب حول كلمة واحدة وهدف واحد وفكرة مثمرة يمكن أن تلقي بظلالها على المجتمع وتساهم في توعيته وتنضيجه لمواكبة المستجدات، وتحدي الصعاب، وتوجيهه من أجل الوقوف في وجه الأزمات والمعارك والفتن التي تلي أي ثورة، ففي مصر ما بعد الثورة مثلاً، لم نشاهد دوراً للمثقف من أجل وضع حد للفتن الطائفية ولا الصراع القائم بين المجلس العسكري والثوار، بل ظهرت نوعية من أشباه المثقفين الذين ظهروا في غفلة على مفاجأة بالساحة المصرية وتحدثوا باسم الثورة، وانتشر بسببهم الضجيج في كل مكان صوتا وصورة في وسائل الإعلام بأنواعه المختلفة وما هم إلا جوقة متشدقون لا يفقهون إلا نغمة الخراب، حيث الملمح المشترك بينهم جميعاً هو فكرة الهدم لما يطلقون عليه بـ(الاناركية) في التأييد المطلق لهدم كل مؤسسات الدولة، وحينما تسأل عن فكرتهم نحو إعادة البناء مرة أخرى تجدها مجرد أحلام واهية، ليس لها مكان على الواقع المصري المرير.. هذه نوعية لما افرزه المثقف المصري (مع تحفظنا لكرامة المثقف المصري الحقيقي) في ظل استغلال الحدث الراهن، لكن والحق كما الشمس في المقولة الشعبية التي تصف حال هؤلاء "راح ينتهوا بسرعة مثل ما ظهروا بسرعة!".
إن مشكلة المثقف العربي وحسب طبائعه العربية والسياسية, إما يرفض إجمالاً أو يقبل إجمالاً, وذلك بسبب الضغوطات السياسية والدينية التي تشكل شخصيته وذلك أصبح لا يستطيع التحكم في التكوين الحقيقي المعرفي والأخلاقي, وهذا أضعف فيه الدلالة الثقافية العامة للمجتمع واحتياجاته كافة, لأنه اعتمد في عيشه وثقافته على الأشخاص أكثر منه على الأفكار وإنتاجها.. وهذا يضعف من دورها وتأثيرها ومصداقيتها وهذا ما يجعلها تنأى عن الحقيقة, وعندما تنأى الثقافة عن الحقيقة الصارمة وقضاياها وتاريخها فإنها تدخل مبكراً في حالات التوهان والتشرد والضعف.. وهذا يجعلنا أكثر عرضة للتخلف ويقوي من حاشية أعدائها وخصومها وهو ما يضعف من مستوى تقدمها وتطورها لمجاراة تعدد الثقافات العالمية كما أن الضعف يؤدي إلى التداخل في مكوناتها بين العام والخاص.
إن ضمان أمن المثقف بأبعاده المتعددة, والذي هو بالأساس مسؤولية السلطة السياسية, يؤدي غالباً إلى تعاظم فرص المثقف وتعزيز دوره في المشاركة بالدعوة للإصلاح والتنوير, ودفع عملية التنمية في الوطن, فلا بد للسلطة أن تلغي الأبعاد المتعددة من التهديدات التي تواجه المثقف, ليعيش حياة كريمة ونظيفة, ويتمتع بحرياته وحقوقه الأساسية, حتى يؤدي واجباته ومسؤولياته الوطنية.. على السلطة أن تساهم بإخلاص كبير في الارتقاء بماهية الثقافة, وتعمل على معالجة مواطن القصور بها..
والتي تعوق مسيرة الثقافة, وتهتم بقواعد تنمية الثقافة باطلاق حرياتها وتمكينها من ممارسة واجباتها ومهماتها . فمسؤولية المثقف عظيمة وجسيمة أمام الله وأمام الأمة وأمام التاريخ واستسلامه وعزوفه عن مواجهة ما يجري في البلد من جرائم فكرية وحضارية أمر غير مقبول والتحجج بأن الساحة السياسية مغلقة، وعوز الحياة وصعوبتها لا يسمح للمثقف الحقيقي بلعب دوره المنوط، أمر مردود وغير مقبول أخلاقياً وحضارياً وسياسياً، لأن الثقافة هي محرك السياسة في آخر المطاف.
× كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
دور المثقف في تنوير الأمة 2278