في نور النهار بالأمس القريب ساقتني أقداري وجرجرتني أقدامي لزيارة صديق لي خلف القضبان، فتحركت معي أشواق القلب إلى عالم كان يتبادر إلى ذهني أنه مليء بالمتناقضات، وعندما انتهيت من الركض عند بوابة السجن وبدأت خطواتي بالعد التنازلي ودفء التفاؤل يحيطني شيئاً فشيئاً، مجيباً على كل تساؤلاتي؟ لم أكن أتوقع حال الوصول إلى السجن بأن هناك أثقالاً من المعاناة ما تنوء بحملها الجبال الرواسي وتحترق فيها المشاعر، حيث أججت في نفشي بركان من الألم مع إن آلام الوقع ليس بمقدور أحد الفرار منها إلا إليها، دخلت السجن بمساحته الطويلة، متنقلاً بين الأقسام ومع أنه كان يوماً فقط مخصصاً للزيارة إلا أنني استمتعت بزيارتي والزوار يحملون ذات المشاعر، تعديت الحاجز الذي يجلس فيه النزلاء مع زائريهم تنقلت بينهم بكل هدوء، أبتسم لهذا وأضحك مع هذا وأهز رأسي باهتمام وأتحدث لهم عن كل شيء، عن الطقس والمطر والمطاعم الجديدة وغيرها من الأحداث وغيرها، ارتاح خاطري لأحاسيسهم المرهفة ومشاعرهم نحوي وفجأة إذ بسجين يشير إلي ويلح علي تسمرت نظراته في وجهي اقتربت منه لعلي أساعده في شيء وهو يناديني بصوته المبحوح الحارق بالندم المنبعث من قلبه المجروح المتلاشي مع الضوضاء الصاخبة كنت أقرأ علامات الانكسار في وجهه كلما اقتربت أكثر وأشيح بوجهي عنه ثم أعود ببطء، تجاذبت معه أطراف الحديث، أطلعني على معاناته التي حكاها لي أنه منذ خمسة عشر عاماً سجيناً بذمة قتل دفاعاً عن النفس ومحكوم دفاعاً شرعياً ولم يستطيع الخروج مع أنه حيال هذه الفترة باع كل ما يملك، فلا جدوى وفوق معاناته وآلامه على وطنه الذي سلبه النظام السابق خيراته وهيبته منذ ثلاثة وثلاثين عاماً إلا أنه أبدى تفاؤله بالثورة الشبابية، كونها نافذة أمل نحو الانعتاق ويسأل بألم: هل تستطيع حكومة الوفاق أن تمنحنا الحصانة الشرعية العادلة بالبت في قضايانا العالقة بين ملفات المحاكم؟ مع أن من حكم عليهم بالسجن لفترة محدودة قد زادوا عليها، فلماذا أعطيت ومنحت الحصانة لمن لا يستحقها؟ إلى الذين نهبوا ثروات الوطن وسفكوا دماء الشباب في جمعة "الكرامة" التي خلفت عويلاً دائماً ودموعاً لا مرافئ لها ولا فطام، لقد أعطيت الحصانة لمن قتل النساء والأطفال وصادر الحقوق والحريات وهدموا المنازل فوق ساكنيها في بني جرموز وأرحب ونهم وووووإلخ، وشردوا الأسر وما أبين وجعار وصعدة عنا ببعيد، بالطبع لقد أعطيت الحصانة لمن سلم السلاح والعتاد للمتمردين المجرمين للمزيد من سفك الدماء، أعطيت الحصانة لمن ترك خزينة الدولة فارغة وموروثاً من الفساد مترامي الأطراف.. أنحن أحق بالحصانة العادلة التي ترد إلينا معها حقوقنا ونرى بين عتباتها الإنصاف؟ أليس نحن أحق بها لتفتح أمام أعيننا الأبواب بعد أن أوصدت لسنين ومازلنا في براثن الحرمان مؤملين بالحكومة الجديدة واليمن الجديد؟ أما تعلم أخي الزائر أن هناك في السجن من له أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً وهو محكوم دية فقط ولا يجد بصيص أمل، بينما المجرمون الذين عرف بجرائمهم العالم وأطلق عليهم مجرمو حرب وتصدرت أخبارهم الصحف المحلية والخارجية، بل أصبحوا حديث الشاشات وهم اليوم محصنون آمنون، معززون مكرمون، اعتادوا إراقة الدماء ونشر الفوضى حتى الآن وبمسميات عدة، أما آن لحكومة الوفاق أن تنظر إلينا وإلى مطالبنا.
انتهى كلامه ومنها تركته والدموع تنهمر من عينيه، وافقته على كل ما قاله وهززت رأسي وانصرفت مغادراً بعد أن أخذت من الهواء نفساً طويلاً وأطلقته ممزوجاً بحسرة التنهد وأنا أتساءل: من لهؤلاء؟ ولماذا هؤلاء؟ وكل هذه المدة بين قضبان السجون، فهل يا ترى سوف تنتهي آلامهم بالمحاكمة العادلة المستعجلة المنصفة ويعودون إلى أطفالهم وأسرهم؟ لاشك أن هناك أمل وإن غداً لناظره قريب.. وللحديث بقية.
أديب قائد الحميدي
آهات من هناك 1835