يمثل العلم بكل فروعه سواء العلوم الشرعية أو العلوم الحياتية قوة حقيقية، هذه القوة التي أحالت الظلام إلى نور بالكهرباء، وأنطقت الحديد والنحاس في الاتصالات، وأنجزت ألوان الرفاه في مختلف مجالات الحياة.
إن العلم هو القوة الحقيقية التي إذا حرمها صاحب الثروة الخام لا يستطيع اكتشافها، فضلاً عن الانتفاع بها ولا يتمكن إلى تحديد موقعها ناهيك عن السيطرة عليها والاستغلال الأمثل لها، فالدول المتخلفة علميا متخلفة عمليا، تنتظر من يأتي ليقول لها: إن هنا بترول، فتردد: نعم نعم يوجد هنا بترول، وهنا ذهب، فتقول: نعم نعم هنا ذهب، وهكذا في سائر الثروات، ثم تأتي تلك القوى التي بيدها القوة العلمية لتأخذ من الثروات ما تشاء، إنها تستثمر جهل الشعوب المتخلفة، إن الجهل يحرم الشعوب من معرفة خيراتها والتمتع بها، وتجعلهم أشبه بالأموات لا يمتلكون قدرة ولا يصنعون تغييرا.
إن العلم هو البوابة الأولى وربما الوحيدة للولوج إلى عالم الحرية، فالعلم حرية ابتداء، ووسيلة الحفاظ عليها انتهاء، وبدون العلم يبقى الإنسان فرداً ومجتمعاً وشعباً أسيراً في جسده وفي اقتصاده وفي قوته العسكرية، فتبقى الأبدان نهبا للأمراض، والاقتصاد فريسة للفقر والفساد المالي والإداري، والقوة العسكرية رهينة لنوع ما تقدمه لها الدول الكبرى، التي تمنع عنها أسلحة الردع، وتحرمها من امتلاك القوة بمعناها الواسع الكبير.
إن العلم هو الطريق الصحيح لتجاوز عقبات الماضي، ومخلفات الاستبداد، وبقايا النظام الظالم، فالعقبات الكبيرة هي الأمية والتخلف الاجتماعي والعلمي وانتشار ثقافة الفوضى والتفلت وعدم الانضباط، ولكن كل هذه المصائب على ضخامتها وبشاعتها تتبدد جموعها وتزول قدرتها على التأثير حين يأتي العلم، فالعلم هو إكسير الحياة الحقيقي الذي يمثل الضوء المبدد للظلام، والروح الطارد لموت الشعوب، والعافية التي تنتشر في جسد المجتمع فتطهره من الفوضى وتقوي التزامه بالانضباط والنظام.
إن العلم هو الروشته الصادقة التي تستطيع أن ترفع عن المجتمع والدولة والأمة الأزمات التي يصنعها الجهل والجهلة، إن الجاهل يحاول أن ينفعك فيضرك، ويحاول أن يفيدك فيبالغ في أذيتك، إنه لا يعرف مصلحته، وقديماً قيل لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.
ولكن العلم برغم أهميته القصوى لا يمتلك القدرة على تحريك الشعوب، ولا على جبرها أو الدفع بها طواعية على الطاعة والامتثال، فكم هم المدخنون الذين يعلمون يقيناً بأضرار التدخين، ولكنهم مع ذلك يستمرون فيه، فالعلم وحده لا يستطيع بسط نفوذه على الذات الإنسانية، فالنفس البشرية تريد قوة أكبر من القوة العلمية لتصيغ حياتها من جديد هذه القوة الحقيقية والفعالة هي القوة الإيمانية، تلك القوة التي تجعل الالتزام رغبة، والتمسك بالانضباط سلوكاً فاعلاً ومؤثراً.
يمتلك العلم الوصول بالنفس البشرية إلى المنبع ليس أكثر، فكما أنك توصل دابتك إلى الماء، ولكنك لا تستطيع أن تجبرها على الشرب، فالعلم هو الوصول إلى الماء، ولكن شربها منه يعود لأمر آخر يحتاج إلى قوة أكثر تأثيرا، وأبلغ أثرا، إنها القوة الإيمانية التي تجعل الإنسان يدع الفراش الدافئ لأجل صلاة الليل وصلاة الفجر، وتجعل المسلم يخرج زكاته طيبة بها نفسه راجياً من الله تعالى أن يقبلها، وهو الذي يجعل المسلم يصوم أو يحج أو يجاهد في سبيل الله تعالى ويواجه المخاطر ابتغاء رضوان الله، وبدون القوة الإيمانية لا تتمكن النفس البشرية من الوقوف في وجه الفتن والمصائب والإغراءات، حيث تضعف النفس البشرية، فتحتاج إلى الوازع الديني الذي يرفع همتها ويمنحها القيمة الحقيقية لوجودها بالالتفات إلى الله تعالى والتسامي على زخارف الدنيا وفتنها الكثيرة، فتسمو على ذاتها كما فعل أصحاب الأخدود حين اختاروا الموت على المبدأ، عوضاً عن الحياة مع تركه، والتخلي عنه، فخلد الله تعالى ذكرهم في كتابه إلى يوم القيامة.
إن تحرير بلادنا من الاستبداد له طريق واحد هو العلم والإيمان، العلم الذي ينير الدرب والإيمان الذي يلزمنا بالسير عليه، العلم الذي يضع الخطة والإيمان الذي يصلها بالله تعالى، فتتحرك القلوب برقابتها الذاتية التي تشبه سيرها في رمضان، لا نحتاج من يراقب التزام الناس بالصوم، وعدم تناولهم المفطرات خفية عن الأعين، لأن رقابتهم ذاتية، فالعلم يقول لهم رأينا هلال رمضان وبدأ الصوم، والإيمان يحملهم على الالتزام والانضباط وتنفيذ الصوم، وهكذا في سائر الواجبات يبقى الدين والإيمان هو الدينامو الحقيقية التي تحرك السكر في الماء لتحلو الحياة، فإذا كان العلم يمثل السكر الذي يوضع في كأس الشاي فإن الإيمان هو المعلقة التي تحرك هذا السكر فتظهر حلاوة السكر وتغير طعم الشاي.
وبدون العلم والإيمان تصبح معالم التغيير ناقصة، ويصبح التدين مشوشاً ومنقوصاً، ومقتصراً على التدين الفردي، وتغيب الواجبات الشرعية الجماعية، تلك الواجبات التي يكلف بها عموم المجتمع حتى يوجد من يقوم بها بما فيه الكفاية فيها، فكل مجتمع لا يتوفر فيه طبيب فهو آثم حتى يوجد من بينه عدد كافٍ من الأطباء كيف نندب أنفسنا للقيام بصلاة الجنازة، ولا نندب أبناءنا لحماية الحياة من خلال تعليمهم الطب، ليكونوا أمناء على مملكة الجسد، وكل مجتمع آثم حتى يوفر العدد الكافي من المهندسين الذين يقومون بواجباتهم الشرعية في بناء المجتمع وهندسة الحياة، وهكذا في بقية المهن.
إن جهل المسلمين بالواجبات الجماعية التي اصطلح على تسميتها كفائية جعلهم يحشرون أنفسهم في النوافل، وينفقون عليها المليارات في حجة أو عمرة ولا يلتفتون إلى الواجبات الأخرى من إنشاء مراكز البحث وكفالة الأطباء والمهندسين ورواد العلوم في مجالات الحياة المختلفة، إن تخلفنا ناتج طبيعي عن تخلف الفهم للدين، والواجبات الجماعية على وجه التحديد.
د. محمد عبدالله الحاوري
العلم والإيمان أساس بناء الأوطان 3252