يأتي دور الكبت الاجتماعي والبنية التقليدية المتزمتة للمجتمع (والتي هي نتيجة أخرى لفشل التحديث) أو نتيجة التحديث المدمر والعشوائي الخالي من كل ضمان ضد الوحشية، خاصة في التجمعات السكانية العشوائية الجديدة التي تفتقد لكل مقومات الوجود الاجتماعي الحضاري، والتي تتحول لمعسكرات لاجئين في أوطانهم، ومستبعدين من الحضارة، تضم في أكواخها مختلف أنواع المحرومين والمكبوتين والمحتاجين.... من هنا وبسبب غياب الدول التام واستقالتها من كل مسؤولياتها، سوف تشكل الأصولية الضامن الوحيد ضد اندلاع العنف والإجرام، بواسطة تبنيها لمنظومة قيم موروثة وجاهزة ومحترمة وغير قابلة للنقاش والتعديل، قاسية ومتصلبة للدرجة التي تجعلها قادرة على حراسة انتظام الجماعة الشكلي الخارجي القسري والنمطي الماضوي، حيث يراد بها التغطية على حقيقة الصراع الداخلي العنيف والمطلوب كبته على الدوام، حيث لا يمكن تصور إمكانية نجاح مثل ذلك الكبت في غياب الديمقراطية، والقدرة على التأثير على الدولة والسلطة وإجبارها على تحمل مسؤولياتها، بل لا بد في هذه الحال من اعتماد نظام قيمي متزمت غير مطروح للنقاش ومتفق عليه بداهة ومرفوع لدرجة التقديس، محروس فقط بسلطة المقدس والانتماء العصبوي والتجمع الفاشي حول زعيم أو إمام، حيث النظام السياسي يحتكر استخدام العنف لنفسه لخدمة أمنه هو وخدمة بقائه هو، وهذا كله ينتهي بهذه التجمعات لتبني نظام عقلي وأيديولوجي متزمت، فالأصولية تعوض عن غياب المضمون الحقيقي للوحدة الاجتماعية القائمة على الحرية والإرادة الحرة وحق الاختلاف والتسامح والحب والرغبة في المستقبل، وتعكس حالة غياب وفقدان الحضارة وتحطم المجتمع المدني، ودمار المجتمع الأهلي التقليدي الريفي والمدني على السواء، واقتصار مهام الدولة على وظيفة حراسة أمن واحتكار السلطة الفاسدة المؤبدة.. لذلك تلعب المنظومة الدينية الموروثة بعد تشديدها، دوراً كبيراً في تغطية حاجة المجتمع للنظام، في ظل غياب الدولة الديمقراطية وسيادة القانون والقضاء النزيه والفعال، الذي يمكن الاحتكام إليه، فيستبدل كل ذلك بالنموذج القديم للتنظيم الاجتماعي، الذي يقوم على الخضوع للقيم والتقاليد والشريعة، التي يجسدها الإمام بشخصه هذه المرة وبطريقة فاشية، ولما كان الدين منظومة متكاملة ومغلقة وشمولية، ويتعمد منظومة قمعية جنسية، كانت ضرورية في المرحلة السابقة، كان من الطبيعي توقع العودة لوضعية دونية للمرأة، والعودة لتوليد الكبت الاجتماعي والجنسي أيضاً.. وأركز بشكل خاص على اضطهاد المرأة، وعلى الكبت الجنسي في مجتمع فتي وفقير، وفي ظروف يستحيل فيها ممارسة الجنس بشكل منتظم لمجموع الشبان الذي يصلون سن البلوغ الجنسي بشكل مبكر نسبياً، والذين يحتاجون للكثير من الموارد لكي يتمكنوا من ( الزواج الشرعي )، والواقعين تحت ضغط كل أشكال الإثارة الجنسية بسبب انتشار الإعلان ووسائل الاتصال.. فهذا القدر من الكبت قد يكون كافياً لتدمير التوازن النفسي وتعطيل طاقات الشباب.
في القديم كان الدين يلعب الدور الأهم في تنظيم المجتمعات، في حين كانت الدولة مجرد سلطة خارجية بعيدة، وارتباط الدين بالكبت الجنسي كان ضرورياً، في زمن كان فيه ضبط الغريزة الجنسية هو أهم عامل في تنظيم المجتمعات، نظراً لغياب الدولة القانونية الحديثة بقدراتها الهائلة، وفي ظروف حياة بدائية وقاسية، فكل الحضارات القديمة قامت على استخدام الدافع الجنسي، وازدهرت بمقدار قدرتها على ضبطه، وهذا ما ترسخ في الديانات، التي هي بحكم كونها ديانات تشكل منظومة عقلية قيمية مغلقة. تتطور بالقفزات وليس بالتدرج السلس، وكل فتح وقفزة تتطلب ثورة من داخلها لإنجاز تطور نوعي فيها، فهي تفتقد آليات التطور الذاتي المتدرج والتلقائي، لكونها تعتمد المقدس، ولكون المقدس شيء غير قابل للنقد والتشكيك، فهو شيء افتراضي جماعي موروث تعاهدت الجماعة على تقديسه وليس من السهل أبداً تغيير المقدس من دون حشد تأييد أغلبية الجماعة ومن دون حاجة حقيقية لفتح باب التغيير وباستخدام درجة كبيرة من القهر السياسي و الكبت الاجتماعي والاقتصادي وبشكل خاص الجنسي، يمكن تحويل الطاقة المتجمعة في الليبيدو نحو التزمت الفكري والتعصب، ومن ثم توظيفها في إنتاج العنف السياسي، فيأتي السلوك الإرهابي ليعبر عن درجة الاحتقان الداخلي، الذي يعاني منه الشاب المحبط والمحروم والعاجز عن الحياة والتعبير، والذي تصبح حياته عبارة عن جحيم يجب الخلاص منه نحو النعيم الأخروي، حيث تتوفر له كل وسائل المتعة.. لذلك لا بد أيضاً من إجراء إصلاح ديني، لكن هذا الإصلاح لا يمكن توقعه في ظروف الانغلاق والكبت والحاجة للوحدة الفاشية المتزمتة.. بل هو مرهون بشروط حياة أكثر مرونة وسهولة، ومرهون بدولة قادرة على القيام بمسؤولياتها تجاه تنظيم الحياة الاجتماعية وتأمين السكن والعمل والضمان الصحي اللازم والأمن والسلم الاجتماعي.. وكل ذلك تعجز عنه سلطة الاستبداد والفساد والفقر والإفقار والنهب الوحشي والتخريب المتعمد لكل مناحي الاقتصاد ولكل مقومات الإنسان وقدراته.. فهي لا تكتفي بتحطيم الاقتصاد بل البيئة والبشر والثقافة والتعليم والوعي والعقل.. وهي كما توصف بأنها أسلحة التدمير الشامل الحقيقية، والتي تشكل العامل الرئيس في تهيئة الأرض لنمو ظاهرة الإرهاب. إن أهم سلاح يمكن استعماله في الحرب على الإرهاب هو سلاح الديمقراطية والحرية والانفتاح.
كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبيرفي القانون العام
د. عادل عامر
حركة العصابات المنتظمة وشيوع الجرائم وتغيب القانون 2004