أدرك العُقلاء في هذا العالم أن إشكالية اليمن في عُمقها كوصفٍ مجرد من المعطيات الحضارية والفكرية هي الجوع وليس الإرهاب، هذا البلد مُنذ فترة طويلة وهو يُعاني من نُدرة حقيقية في مصادر عيشه ويقع تحت سقف الفقر وما زاد الطين بله أن نظامه السياسي السابق أكمل فصول مأساته بامتصاصه بقايا دمه ونهب مخزون ثرواته الفطري المخبوء في جُغرافيته بأسلوب ونمط مُقزز دون رحمةٍ وانعدام للأخلاق الإنسانية والأكثر جُرماً منه استعداء جيرانه عليه وإفساده علاقته بهم بسوء نية، فنتج عنه استبعادهم للعمالة اليمنية خاصةً من دول الخليج، فازدادت نسبة البطالة وشِحة موارد البلاد التي وصلت في بعض الأحيان للعدم ولولا المساعدات الإنسانية -في عالم الأسباب- لضاق به الحال وتلاشى تلقائياً من الوجود.. وعلى نفس السياق دأب النظام السياسي السابق لاستمرار بقائه في سدَّة الحُكم على استنزاف الرصيد الأخلاقي والحضاري لليمنيين، بادعائه ظُلماً وزوراً أنهم مَحضن ومنبع للإرهاب وتنظيم القاعدة، ليقتات بعد ذلك على ما يُقدمه المجتمع الدولي له من دولارات بداعي مُحاربة شعبه الذي سوَّقه لهم على أنه إرهابي، ليصبح بعد ذلك اسم اليمني مُرتبطاً ضرورةً بمفهوم الإرهاب وغير مقبول في كثير من بُلدان العالم لذاته ولا لطبيعة ما قد يقدمه من أعمال أو علاقات على المستوى الإنساني وما عاد لوجوده قيمة إلا ليُسفك دمه ويُريح العالم من شره المُفترض, غير أن الكارثة تكمن في أن العالم يكتشف بعد ذبحه أنه لا يوجد فيه قطرات دمٍ كافية ليكون إرهابياً أو حتّى ظل إرهابي وإن أدق وصفاً له بعد ذبحه أنه جائعٌ يبحث عن لقمة عيشه، باعهُ قومه مُقابل ثمنٍ بخس دراهم معدودات وكانوا فيه من الزاهدين.
لقد صرخ كثير من مُفكري الغرب خاصةً الأوروبيين منهم أن اليمن غارقة في الجوع وليس في الإرهاب وأن هذا الشعب أصيل في الحضارة جارت عليه الأحداث والزمن واُوقِع في فخ الجوع وما الإرهاب إلا نتيجة له وليس مكوناً له وإن إخوانه أثرياء النفط تركوه فريسةً لأعدائه يعبثون به كيف ما يشاؤون، مُستغلين أبشع استغلال لجوعه وفاقته.. اليمن دولة وشعب مسلم يقع على بُحيرة من البترول، فهو مُكون من مكونات الجزيرة العربية وهذه هي سبب مأساته الخوف منه على البترول إذا شبع والخوف منه أيضاً على البترول إذا جاع، فكان الخيار الأمثل تركُه مابين الجوع والشبع، أي مابين الموت والحياة وإشغاله عمداً بالحفاظ على وجوده الطبيعي والحفاظ على نسله وفقاً لشرط مُحدد أن يكون نسله نمطياً يبحث كسابقه عن البقاء في الحياة لا على الإبداع في الحياة، غير أن هذا الخيار برُمته وهذه المعادلة تَختل في كثير من الأوقات إلى أن تصل باليمن إلى مستوى الإهلاك الإنساني كما هو حاصل اليوم، فلقد كان النظام السابق داخل في هذه المؤامرة الاستمرار في تجويع الشعب كنظريه موروثة في الحكم تتسق مع بعض الإرادات الخارجية، فاجتاز على كل مُقدَّرات اليمن الاقتصادية وأغرقها في متاهات الجهل وعَمَّق فيها مبادئ التخلُّف ورسَّخ دور القبيلة في المجتمع على حساب مفهوم الدولة وسعى في نفس الوقت إلى إشغال أفراد القبيلة على الزعامة بعد أن همَّش زعامتها التاريخية وفرَّخ زعامات جديدة تنافس القديمة وتدين له بالولاء أكثر من القديمة وشخصن وحدات الجيش النوعية وألغى دور الأمن وأوكل مُعظم مهامه للقبيلة, كُل هذا من أجل الإستمرار في نظرية التجويع والنهب المُمنهج لثروات الأمة حتى لا تشبع مُستغلاً كل عوامل الإشغال والإلهاء والإحتناك الذي صنعها للشعب، فلا يكاد يصحو من مأساة حتى يقع في الأخرى ومازال النظام السابق حائزاً على مُعطيات وجوده برغم فقدانه الشرعية الوهمية، مازال حائزاً على المال المنهوب والقوة الغاشمة التي صنعها من مبادئ الجهل والتخلُّف المجسدة في الإنسان الحامل للبندقية والذي يستر عورته بقطعة قماش مُزركشة بكل ألوان الطيف تماماً كالثقافة التي أوجدته.
والأمر المحير أن واضعي مشروع المبادرة الخليجية ومُمثلي الشعب اليمني لم يتطرقوا لا من قريب ولا من بعيد لأموال اليمن المنهوبة والتي تُقدر بالمليارات من الدولارات وكأنما أباحوها للنظام السابق، فهل الأموال المنهوبة داخلة في مشروع الحصانة؟! أم هي غفلة يُمكن مراجعتها ؟فما قيمة المبادرة واليمن جائعة وأموالها لدى النظام السابق؟ّ! هل من مشتملات الحصانة أن يُصاب النظام السابق بالتُّخمة بأموال الشعب والشعب يلُفه الموت والجوع ؟!.. في تصوري إن قانون الحصانة يُقصد به الوقائع الجنائية المتعلقة بالأشخاص وليس بالأشياء وغير داخلة في الحصانة حقوق الشعب الطبيعية المُنتهبة لدى النظام السابق وهذا المقام لا يتسع لبحث هذه الجزئية، غير أن السياق أجبرني على التطرق إليها، فمجاعة اليمن اليوم مقدماتها في نهب النظام السابق لمقدراتها بالأمس العينية منها والنقدية ومازالت بحوزته إلى الآن وهذا سبب رئيسي لحدوث المجاعة، فمن المُستقبح عقلاً أن يُسارع العالم في إغاثتنا ولدينا من الحقوق ما قد يكفينا منهوبةً لدى النظام السابق وعموماً اليمن على حافة المجاعة الحقيقية وهو يقبع فوق بُحيرة من النفط وبجوار الكعبة المُقدسة وليس بجوار كنائس روما ولا في أدغال البرازيل والأرجنتين وإلا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه!
ومن نافلة القول أنه أصبح من الواجب على جيران اليمن والأمة العربية الوقوف بجواره حتى يخرج من محنته هذه، رغم أني أدرك أننا ندفع ضريبة سكوتنا على حُكم استعبدنا وأذلنا ونهب ثرواتنا لمدة ثلاثين سنة.
وفي الأخير أجدني مُنساقاً أدباً وخُلقاً للقول: شكراً للشقيقة السعودية على موقفها الأخوي الرائع من اليمن، شكراً لدولة الإمارات على ما قدمته، شكراً لكل قلب يعنيه أمرنا في الشرق أو الغرب.. يا وطني سلمت من كل سوء وكم هم تُعساء وأشقياء أولئك الذين أدخلوك في متاهات الجوع ويختبئون منك خلف الجبال وخلف بقايا الرجال وخلف ما كنزوا من خيراتك ذهباً وفضةً ودولاراً..
د/ عبدالله الحاضري
اليمنيون جائعون وسط بُحيرةٍ من البترول! 2597