مُنذ ظهور نتائج الانتخابات المصرية والكُل العربي والإسلامي والعالمي في ذهولٍ تام.. ياللهول! النظام السابق يستنسخ نفسهُ ويكاد يُعيد إنتاجه من خلال الشعب المصري الثائر ذاته، تلك حقيقة يجب أن نُقرَّ بها مهما كانت مرارتها، فلقد تعود الجهاز المفاهيمي العربي على عدم الإقرار بأخطائه والبحث في عالم الأسباب عن مسوغات لهذه الأخطاء حتَّى لا يدخُل في مواجهة حتمية مع نفسه لطالما هرب منها خشية الإقرار بمسؤوليته عنها وتحمُّل تبعاتها على المستوى الاجتماعي.. لقد درَج هذا الجهاز خاصةً ذو المحتوى الثقافي الإسلامي على الارتكاز في وجوده السياسي بمُخرجات محتواه الفكري والأيديولوجي دون تتبُّع واعٍ لطبيعة التطلُّعات الطبيعية للمرحلة التاريخية التي قد ينشدها المجتمع بكُل مكوناته أو على أقل تقدير تفهمها دون تجزئتها بحسب ميولٍ ما أيديولوجيه، فقراءة الخارطة الفكرية الثورية التي أنتجت الثورة المصرية تُبين بِجلاء أنّها هي التي ستُنتج الشكل السياسي وبالتدقيق في أطيافها استبان أنها لم تكُن نابعةً من مشربٍ فكري واحد أو ايدولوجيا واحدة، بل تعددت مراكز استسقائها وبهذا التعدُد على كُل المستويات بات من المُفترض القول أن الشكل السياسي يجب أن يكون تجسيداً حتمياً لهذا التعدد ومن المفترض أن يكون كذلك بإرادة إجتماعية مُدركة دون إلجاء الشعب المصري لتقرير هذه الحقيقة بتصويته للنظام السابق للتعبير عن رفضه لتجاهُلها سياسياً.. أحمد شفيق لم يكُن اختيار الإرادة المصرية الحُرَّة ولكنه اختيار الإرادة المُكرهة تحت حُمَّى الأغلبية السياسية وليست الأغلبية الثورية, هل غابَ عن الإخوان أن الشعب المصري ليس كُله إخوان؟ وليس كُل الشعب المصري مؤيداً للإخوان؟ كان ينبغي على الأقل أن لا يسمحواْ بأن يكون هناك مُجانبة مع مرشح الثوار حتى وإن كان من جانبهم، أم أن نشوة النصر السياسي أنستهُم مُقتضيات التَّحول التَّاريخي التي من أبسط قواعده أن رصيدهم النضالي وطبيعة منهجهُم الإسلامي غير كافي لإقناع الشعب المصري بتربعه متفرداً على هرم السُلطة السياسية وامتلاكه لكل أدواتها؟.. لقد حاز الإخوان على الأغلبية البرلمانية وهذا حقُّهم لكن كان عليهم التوقُف وجوباً عند هذا الحَد لطمأنة الشعب المصري بكُل أطيافه وميوله السياسية والفكرية أنهم ليسوا وحدهُم الورثة الحصريين للثورة وأن لبرامج وأفكار الآخرين نصيباً أيضاً فيها يتساوى بنفس قدر طاقتهم الثورية المبذولة, الشعب المصري ضحَّى أيضاً وكان يستحق من الإخوان المُسلمين مراعاة وضعهم الثقافي والاجتماعي ومنحهم فرصة زمنية للتعرُّف عليهم أكثر والاقتراب الفكري منهم أكثر بدلاً من إفزاعهم بالقفز إلى الصدارة السياسية ومُجافاة نتيجة التحوّل الثوري دون التغيير الفكري المطلوب اجتماعياً لتقبُّل هذه النتيجة السياسية.
وبصراحة يُمكن القول أن المرحلة التاريخية التي يمُر بها الشعب المصري بما فيها زمن الانتخابات هي مرحلة العبور الثوري، أخطر مرحلة تمُر بها الثورات على مـر العصور وهي المرحلة التي تُحدد مصير الثورة وطبيعة إنتاجها واتجاهاتها الأخيرة ومن الخطأ التقرير أنها مرحلة تخلُّق الشكل السياسي، بل هي من مُقتضيات تخلُّق الهيئة الاجتماعية التي ستُنتج الشكل السياسي ووضعه المُرتقب وبالتالي هي مرحلة التغيير الثقافي وإنتاج الأفكار, كان على الإخوان التوقّف عند مجلس الشعب واختيار مُرشح رئاسي ثوري والتفرُّغ للبسط الثقافي وتعريف العقل المصري بالمُحتوى الفكري الإخواني وإزالة الغموض التاريخي الذي رافق نشوء الجماعة والتُّوضيح أن المنهج الإخواني يستهدف في بُعده الثقافي والزمني خلق حضارة مؤسسة على الأفكار المُنتجة من الثقافة الإسلامية وليس الاحتياز على السلطة السياسية.
أنا هُنا لستُ في مقام إسداء النصائح، لكنِّي أقول ما أعتقد مع التقرير أنه يحتمل الخطأ قبل الصواب، فمهما كانت مُعطيات ظهور شفيق في الانتخابات المصرية، فيجب أن نبتعد عن نظرية المؤامرة وأن نحاول تشخيص أسباب هذه الإنتكاسة بموضوعية وتجرُّد فنتائجها ستؤثر علينا سلباً وإيجاباً مع الأخذ بعين الاعتبار المُعطيات التاريخية الثورية والعلم المُسبق بأن للثورات خصوصياتها التي ينبغي مراعاتها حتى لا تتجه نحو المجهول ويكون مردودها على المستوى الكُلي ضعيف، مقارنةً بحجم تضحيات الشعوب ومهما يكُن من أمر نتائج هذه الانتخابات ففي تصوري أن فيها من المفاهيم والعِبَر ما يُغني حتَّى عن النجاح بالوصول إلى سدَّة الحُكم، فالكاسبُ فيها خاسر والخاسرُ فيها كاسب، ذلك أن تجربة مصر السياسية ما قبل الثورة، غير مُجدية ولا يُمكن الاستفادة منها في حُكم ما بعد الثورة والتجربة الثورية لوحدها غير كافية لحُكم مصر وأن من يتولى السُلطة في هذه الفترة الحرجة من تاريخها ستكون عوامل فشله أقرب من عوامل نجاحه وأن المُعارضة القوية هي الكاسب الأكبر، فهي ستضيف إلى رصيد تجربة الثورة تجربة حُكم سياسي مُجسداً أمامها بكل سلبياته وإيجابياته وستُعمِّق في نفس الوقت من مكنونات علاقتها بالشعب وتزيد من عوامل توتّرها الاجتماعي ولن تأتي مرحلة الانتخابات التالية إلا وهي بديل حقيقي أمثل مُتجذِّرة اجتماعياً وسياسياً، مُمتلكة لرؤية ثاقبة على كُل المستويات الوجودية.
أقول هذه الكلمات وأنا أظُن من خلال دراستي البسيطة لمنهجية الإمام حسن البناء أنه لم يكُن يستهدف إستراتيجياً الإحتياز على السلطة السياسية في مستواها الكلي أو القُطْري، بقدر ما كان يستهدف إعادة صياغة المُحتوى الفكري للعقل الاجتماعي المسلم الذي سيُنتج بدوره الشكل السياسي المُفترض, لقد أدرك الإمام رحمهُ الله أن الإشكالية التي تُعاني منها الأمة في عُمقها اجتماعية حضارية، وليست سياسية بالضرورة في بُعدها وما المُشكل السياسي إلا مُجسداً لطبيعة هذه الإشكالية، فحرص على خلق المُجتمع ذي المحتوى الفكري النابع من الثقافة الإسلامية ومن ثَمَّ تنصهر الجماعة في بوتقته بعد أن تكون قد أدَّت دورها التاريخي ويصبح الشكل السياسي بعد ذلك مُنتجاً تاريخياً مصبُوغاً بالثقافة الإسلامية وليس بالرؤى الإخوانية، وعلى الإخوان مرحلياً التدقيق في مضمون ومفهوم المنهج ومقارنته بالخارطة السياسية والاجتماعية الثورية الحالية ومراجعة حساباتها على كُل المستويات ولِتعلم قيادة جيل الإخوان الحاليِّة أنَّها تتحمّل مسؤولية عظيمة في رسم مُستقبل العالم الإسلامي، فقدرُها أن تَحيا في أتُّون المخاض والتَحول العربي والإسلامي وعليها أن تُهيئ نفسها للإجابة على طبيعة الاستفسارات المنهجية التي تطرحها التّحولات الاجتماعية، فمتى ستذوب وتنصهر الجماعة في أتُّون إنتاجها المُتسلسل المُتخلِّق تاريخياً والذي من المُعتقد أنّهُ الآن قد يصل إلى ذروته إذا ما اقتنعت به على المستوى الحضاري، فأنا على يقين أن منهج الإمام لصيقٌ بالتكوين الثقافي للمُجتمع المسلم وليس بالجماعة ككيان خلقتها الظروف التاريخية التي بدأت بالانصهار في خِضَم الربيع العربي, ولم يعد من المُجدي التعامل من خلاله مع المُستجدات.
قد يقول قائل ما مناسبة هذا الطرح وما علاقته بالانتخابات المصرية.. أقول: ظهور اللواء شفيق كان نتاجاً لجملة هذه الاستفسارات المُربكة، فلقد كان ظهور حزب العدالة إطاراً إيجابياً مقبول للمرحلة التاريخية للجماعة ولمصر، غير أن استمرارها كمرجع لهذا الحزب أربك الناخب المصري الذي بدأ يتبادر إلى ذهنه سؤال مُفترض مفاده ما هو سقف حزب العدالة الدستور أم رأي الجماعة؟ومن ثّمَّ إذا كان الدستور سقفُها، فماذا يُمثّل بالنسبة لهُ رأيُ الجماعة هل هو رأي مرجعية عُليا استشاري غير مُلزم أم أننا سنشهد ميلاد مُرشد أعلى سُنِّي إذا لم يكُن سقفهُ الدستور؟، وفي أروقة السلطة هل سيتم التعامُل معه كحزب مُستقل أم مع الجماعة التي أنتجته ككيان؟ وبدأ الناخب المصري يستبطنُ في أعماقه وضوح النظام السابق برغم دكتاتوريته وغموض المستقبل برغم افتراضية إسلاميته.. هذا جانب ومن جانب آخر طبيعة التحول التاريخي كانت تقتضي من جماعة الإخوان بث روح الاطمئنان عملياً للشعب أنَّها جُزء من التحول الثوري وليست هي ذات التحول، يتبع ذلك إشراك المُكوِّن الثوري الاجتماعي في صناعة الشكل السياسي وليس في تزعُّمه وهذا التصوّر يجب أن يسود الإخوان في العالم، فلقد ناضلوا مُنذ زمن بعيد في إطار الجماعة وضمن مفهومها للنضال وعانت ولاقت من أصناف الظلم والعدوان في جميع مراحلها التاريخية، ما لم يُعانوه أو يُلاقيه، تنظيم أو حزبٍ ما في العالم ولقد حان الوقت ليقطفواْ ثمار نضالهم، لكن بالاشتراك مع المُجتمعات المُتحولة معهم، بغض النظر عن طبيعة أفكارهم مادامت مقبولة في إطار التنوع الثقافي الإسلامي، مع الأخذ بعين الاعتبار زمن الانصهار في الشكل السياسي المُفترض الذي سينتجه الفكر الاجتماعي المُتحول في مستواه الكُلي.
وفي الأخير أتمنى على المعارضة اليمنية بكل أطيافها قراءة المشهد السياسي المصري بعُمق، فأنا أميل إلى أن هذه التجربة بكل معطياتها قد تتكرر لدينا ما لم نحاول منع تكرارها بتفهُّم طبيعة التحول التاريخي وإننا جُزء من هذا التحول ولسنا صَانِعيه, أفكار الشعوب المُتغيرة هي التي تصنع هذا التحول وما النُّخب والأحزاب السياسية إلا نتاج لهذا التحول وليست هي التي أنتجته وإذا ما انقلب هذا المفهوم في الذهن الاجتماعي أو السياسي، فستحل الكارثة تماماً كما شارفت أن تحِلَّ بمصر التي ظنَّت أحزابها وقادتها أنَّهم صانعو التحول، فكان الرد المُوجع للمفهوم المقلوب انتخاب شفيق حتَّى يفيق الجميع من الرُّقاد العميق ومن تبعات الخلط بين المفاهيم التي قد تقضي على الشعوب في مهدها والكارثة أن يظُن أصحابها أنهم يُحسنون صُنعاً.
سلمت يا وطني من كُل حزبِ يعتقد أنه على كُل شيءٍ قدير وينسى سُنَّة الله في التغيير القائمة على الاشتراك منذ قراءة إياك نعبد وإياك نستعين وحتَّى صناعة جيل قادر على الإبداع في الحياة بدلاً من انتظار فُتات المانحين.
د/ عبدالله الحاضري
الإخوان المُسلمين والاقتراب من الكارثة 2965