في مثل هذا اليوم من العام الماضي كانت تعز، بل اليمن كلها مسجاة بسحابة سوداء أمطرت حزناً وألماً وموتاً انبعث منه مارد الحرية والتحرر الذي لم يستطع الحقد الأسود إيقافه أو التصدي له، كانت تعز حينها على موعد مع الموت والدمار الذي سيظل عاراً وويلاً وثبوراً يلاحق صالح وعائلته أبد الآبدين، وسيظل فيران ورفاقه يذكرهم التاريخ كعصابات احترفت القتل والدمار وعشقت سفك الدماء الطاهرة .
محرقة ساحة الحرية التي حدثت الأحد التاسع والعشرين من مايو العام الماضي كانت جريمة إنسانية مع سبق الإصرار والترصد وسيسجلها التاريخ كواحدة من أبشع جرائم القرن الواحد والعشرين في تاريخ اليمن، ولقد مثلت تلك الجريمة علامة فارقة في انتصار تعز وأبنائها الأبطال الميامين، ولقد سجل فيها ثوار تعز قمة النضال السلمي الذي لم تشهد اليمن مثله منذ عشرات الآلاف من السنين، وبحجم تلك الجريمة التي لا يزال منفذوها الأوغاد طلقاء دونما أي عقاب يذكر لازال مطلبنا واضح ودونما تراجع بكشف الحقائق للرأي العام المحلي والدولي وإنزال أقسى العقوبات بحق مرتكبيها وأتمنى ألا تخذل تعز، وتقيد الجريمة ضد مجهول، وكلنا يدرك ويعلم من هو ذاك المجهول، والذي هو أشهر من نار على علم، وإن كان النظام السابق يتهرب من الجريمة ويريد أن يلصقها بآخرين، فليساعد على كشف الحقائق ويبرهن بالأدلة القاطعة على براءته، مع إيماني المطلق بعجزه الكامل أما جريمة أقل ما يمكن وصفها بالهلوكوست النازي .
صادفت زيارتي إلى تعز ذلك اليوم الذي لم ولن أنساه ودلفت إلى مدينة تعز عند الخامسة من عصر ذلك اليوم المشئوم، وكانت نفسي كلها أشواق وحنين لأطأ بقدمي ساحة الحرية وأول بقعة انبعث منها وحي الثورة إلى كل أرجاء اليمن، وكان أول تفكيري حينما هممت بزيارة تعز هو أن أزور ساحة الحرية، إذ لا معنى لزيارة تعز دونما زيارة ساحة الحرية وتلك والله هي الحقيقة وهي في نفسي كشخص زار مكة ولم يزر الكعبة المشرفة وكمن يزور مصر ولا يزور أهرامها أو ميدان التحرير وفي كل لا معنى للزيارة بدون كعبة مكة أو أهرام وميدان تحرير مصر، ولقد حالت بعض الأسباب الإجبارية دون زيارة الساحة باكر وقلت سأقضي ليلتي فيها، ولكن أرواح نيرون والنفوس الهتلرية شاءت دون ذلك ووصلتني الأخبار التي كانت أقسى علي من سماعي برحيل أعز أحبابي، ولست هنا لأسرد يوما أسود وملي بكل ألوان الشر والإرهاب لكنني عشت لحظات وساعات أشد وطأة من حمل الجبال، لم أذق للنوم طعماً يومين متتاليين ولا أظن أحداً سيدرك ذلك اليوم، وخصوصاً أول ليلة للمحرقة إلا من كان في تعز أو تواجد على أرض الساحة، في تلك البقعة التي اشتراها الثوار بدمائهم تجلت نازية صالح وأعوانه وراحوا يسترخصون الأرواح البريئة والطاهرة ويقدمونها قرباناً بين يدي العائلة كي تستمر في نهب اليمن أرضاً وإنساناً، أحرقت الخيام وفيها المعاقين وكبار السن وتم جرفهم بطريقة مهينة ومع كل الجرائم التي ارتكبت آنذاك لم يكتفي نيرون تعز بفعلته، بل ذهب هو وزبانيته لرفع صورة كبيرة للمخلوع وراح مهرجي صالح ومعاونيه وأنصاره يتلذذون بقتل الشباب وحرق الساحة وزاد تشفيهم للدعوة لإحياء جمعتهم في نفس المكان ولم ولن يستطيعوا أن يوقفوا روح الثورة التي سقاها شهيد تعز الأول وفي نفس المكان الشهيد "مازن البذيجي" ولم تدم جريمتهم طويلاً، فلقد لملمت تعز جراحها وألمها وعادت بأقوى مما كانت ويأبى الله إلا أن يتم نوره، خرجت تعز بعد المحرقة أشد عوداً وأقوى صلابة وأكثر مدن اليمن ثورية على الإطلاق.
صباح اليوم التالي من رآه وعاشه في تعز لن يمحى من ذاكرته، كانت الوجوه شاحبة لكنها مضاءة بنور الثورة وكانت الأنفس ملؤها الحزن والأسى وكنت موقناً بقرارة نفسي أن ذلك اليوم له ما بعده وخلفه يختبئ نور النصر والانتصار للثورة وكنت أردد مع نفسي وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وهاهي الأيام قد ذهبت وعقارب الزمن لن تعود وبدأت بعض ثمار الثورة بين أيدينا ظاهرة للعيان وعلينا دون غيرنا تقع المسؤولية بالوفاء لشهداء محرقة تعز وكل الشهداء بالاستمرار في نهج الثورة والدفع بعجلة التغيير للأمام، ولابد أن نجدد العزم في مثل هذه الذكرى لننتصر لكل قيم الثورة
وأخلاقيتها ولنجعل سيف العدالة فوق كل الجناة والمجرمين الذين استباحوا كل شيء في الحياة، ولابد أن نحيي مثل هذه الذكرى كل عام ونخلدها للأجيال والتاريخ ليعلموا عدالة قضيتنا في الثورة والتحرر من عائلة لم يعرف اليمن مثلها من قبل وأظن لن نعرفها من بعد ولتدرك الأجيال القادمة حجم تضحيتنا ونضالاتنا حتى لا يفرطوا في مسار ثورتنا ويعود التاريخ من جديد عليهم ويقعوا في قبضة عائلة صالحية جديدة.
محمود الحمزي
هلوكوست تعز.. في ذكراها الأولى 1724