في ذكرى (الحقد الأسود) تظهر (القلوب البيضاء) لتسطر أروع الملاحم وأجمل المقامات وتشدو بأحلى وأعذب الأغنيات ، في ذكرى (الموت) تنتفض (الحياة) بكل ما فيها لتعطينا درساً في أنه (من شبَّ على شيء شاب عليه) ، وعندما تشب تعز على العزة والكبرياء فإنها ستستمر على حالها حتى تشيب ، رغم أن تعز لا تشيب ، فهي كل يوم تزداد نضوجاً وشباباً وجمالاً وألقاً وبهاءً لا يساويه فيها أحد رغم كل محاولات الإعاقة التي تطالها .
ذات يوم صحت تعز وأبناؤها يشعلون ثورة في وطن بأكمله ، فكانت لهم خير زاد ، وأدركت حينها أنها لن تنام بسلام ما دامت رمزاً للثورة ومهداً لها ، كانت تعز تشارك بذلك (سيدي بوزيد) التونسية ، و(بنغازي) الليبية ، و(القاهرة) المصرية ، و(درعا) السورية ، كمناطق خالدة لاندلاع ثورات الربيع العربي البهي ، لكن لأنها تعز فلم تعبأ بكل المخاطر المحدقة بها ، بل شمرت واجتهدت وألهمت أبناءها المشاركة في صنع اليمن الجديد والمستقبل الأفضل !.
وبعد أن أذاقتهم تعز ويلات (التظاهرات الحاشدة) ، وأحزان (الهتافات الصاخبة) ، وآلام (النضال السلمي) ، وأوجاع (الثورة العارمة) عملوا على الانتقام منها ، فخططوا بكل الوسائل والأساليب ، كان (الحقد) يمتلأ بقلوبهم على مدينة (التسامح) ، وكان (الغيظ) الذي يغلي في صدورهم يُسمع صداه من بعيد ، لقد أوجعتهم ، عذبتهم ، أرهقتهم ، عاندتهم ، أبكتهم ، أدمت قلوبهم ، حيرتهم ، فما معنى أن تقابل (المدفع) بالورود ، وما معنى أن تفتح للقذيفة صدرها العاري ، وما معنى أن (تصدَّر) أبناءها إلى كل مكان لكي يرووا بدماءهم تربة وطنهم المتعطشة إلى الحرية رغم أن مبغضيها كانوا (يستوردون) من ليس لهم قلوب لإقحامهم في حرب تعز وأهل تعز ، لا شك أنها مدينة (الجنون) ، ولكن أي جنون ، إنه جنون النضال السلمي الذي يحرق قلوبهم ألف ألف مرة !.
وذات يومٍ أسود ، كان كل شيء يمضي بحسب الخطة المدبرة من أعلى ، كان كل (مجرمٍ) يهيئ نفسه ، وكل (حقودٍ) يجهز عدته ، فذاك اليوم هو يوم اقتحام ساحة الحرية الأولى في اليمن ، ذاك اليوم هو اليوم الذي كان يُخطط له أنه سيكون يوم (الضربة القاضية) التي تقضي على الثورة في عموم اليمن بإطفاء الشرارة الأولى للثورة ، وفعلاً كان ذلك اليوم هو يوم (الضربة القاضية) ، ولكن في الجهة الأخرى ، كان ضربة قاضية في وجوههم هم ، أما تعز فلا !.
جثثٌ تتساقط ، وأقدامٌ قذرة تدوس عليها ، النيران تلتهم كل شيء ، سواء تلك النيران (المحسوسة) التي أحرقت الخيام ، أم تلك النيران المشتعلة في قلوب أصحابها والتي التهمت (الجثث) بما فيها جثث المعاقين ، أحرق المصحف الشريف ، صودرت ممتلكات الناس ، عُبث بالمستشفى الميداني ودُنست كرامة المسجد الذي يحتوي ذاك المستشفى ، اعتُقل من اعتقل ، وحوصر من حوصر ، رائحة الدم تفوح من كل الجوانب والأرجاء ، ساد الهرج والمرج ، أجزاء من العالم كله تتابع ما يجري في تعز رغم التغطية الإعلامية (المخزية) لما حدث في محرقة الحقد الأسود ، والتي لو كانت حدثت في منطقة أخرى لأشغلت القنوات الفضائية الدنيا بأسرها ، ولكن هذا قدر تعز ، ساد الخوف في قلوب الكثيرين من اليمنيين على الثورة والثوار ، إلا منطقة واحدة لم تكن لتهتز ، ومن سواها تعز ، هي المنطقة المنكوبة ، ولكنها كانت الأكثر يقيناً بنصرها ، كانت محافظات اليمن تبكي ، بينما تعز تضحك ، تضحك رغم الألم ، فهي تعرف عاقبة اللعب معها من قبل (الجاهلين) ، لذا فلم تأبه بما صنعوا ، ولم تلتفت إلى ما يفعلون ، بل لملمت أشلاءها ، واستنهضت همم أبناءها ، توضأت واستغفرت ، وخرت راكعة ساجدة طوال الليل ترجو الرحمة والمغفرة والجنان العالية لأبناءها الشهداء ، وفي (الصباح) كانت تعز على موعد مع صلاة (النضال) ، تلك الصلاة الأكثر قداسة ، والأشد خشوعاً لكل من يؤديها بصدق وإخلاص ! .
انتفضت تعز من صباح اليوم التالي لمحرقة الحقد الأسود ، لم تنتظر طويلاً ، ولم تقم المآتم ولم تنصب خيمات التعازي ، كان (الله يعظِّم أجرها) لأنها لم تنتظر من أحد أن يأتي ليعزيها ، بل هي من سارعت إلى تعزية الجميع ، فقد كان عزاء الأحرار أن يروا تعز تنتفض رغم كل ما جرى ، أن يروها تقف بشموخ رغم محاولات تركيعها ، أن يروها تصرخ رغم محاولة تكميم أفواهها ، أن يروها تضحك رغم (شلال الدموع) الذي لو سال من عينيها لجرف كل ما يقف أمامه ، فما عانته ليس بقليل ، وإنما هو كافي لكي تبيَّض عينيها من الحزن ، ومعها مئات المدن المتضامنة والتي تشعر بنفس ما تشعر به تعز ....ولكن لأنها تعز ، فهي عصية على الدمع كما هي عصية على الإذلال والتركيع.
بقيت تعز ، بينما ذهب صُناع المحرقة ، عادت الساحة بينما هرب من أحرقوها ، انقلبت كل الموازين هنا ، المحروق عاد للحياة وكأن شيئاً لم يكن ، بينما الفاعل ذهب يعاني حرائق الندم في قلبه ، وما أقسى ما يعانيه ، كل شيء في الدنيا يسير على قاعدة (يوم لك ويوم عليك) ، إلا تعز ، فـ(يومٌ لها ويومٌ لها) ، فهي تحول المحن إلى منح ، وتجعل من الأتراح أفراح ، وتحول التعازي إلى تهانٍ، والمآتم إلى ولائم ، والمحارق إلى بيارق ، لله درك من مدينة ، ولله در أبناءك يا (أيقونة) الثورة ..يا تعز.
طارق فؤاد البنا
وتبقى (تعز) رغم كل الصاغرين!! 1823