لقد سبق لأوروبا أن جربت التقشف من قبل، لكنه لم ينحج في الوقت الذي تقوم فيه الحكومات بخفض ميزانياتها، حيث وصلت البطالة في منطقة اليورو إلى 10.9% بداية العام الحالي، وهو أعلى مستوى لها منذ اعتماد اليورو لأول مرة في 1999م، وحالياً يوجد أحد عشر بلداً أوروبياً من بينهم دولتان من خارج منطقة اليورو فرضتا التقشف على نفسيهما مثل بريطانيا التي تعاني من حالة ركود اقتصادي.
وفي إسبانيا وصلت البطالة إلى 24.1%، ومع ذلك فإن الحكومة الإسبانية تواصل تقليص الوظائف والخدمات تماشياً مع اتفاقية التقشف المالي التي تلح عليها ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، غير أنه حتى في ألمانيا التي ازدهرت في وقت ضعف فيه جيرانها ارتفعت البطالة قاضية على كل مكاسب التوظيف خلال العام، والحال أن ألمانيا باعتبارها عملاق التصدير في أوروبا في حاجة إلى جيران لديهم ما يكفي من الدخل لشراء منتجاتها. غير أن إلتزام المستشارة الألمانية بتحقيق توازن الميزانيات بشكل صارم لدرجة أنه قد يقضي على معجزة ألمانيا الاقتصادية عبر حرمان مصنعي بلدها من الزبائن القادرين على الشراء، بيد أن عاقبة التقشف لا تقتصر على الركود القاري بل تشمل في بعض الدول إعادة إحياء أشكال من التطرف السياسي التي لم تعرف لها أوروبا نظيراً منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم العيوب التي ينتقد عليها إلا إن الاتحاد الأوروبي وقضية الوحدة الأوروبية وضعا القارة على مسار معتدل أكثر مقارنة مع المسار الذي كان عليه خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولكن عيب الاتحاد أنه خلق سياسية نقدية موحدة لدول لديها إقتصادات مختلفة ومتباعدة بشكل كبير، كما أن الاندماج القاري حرم هذه الدول من الاستقلال المالي عندما حل الركود الكبير.
الحجج والمسوغات التي يتم الدفع بها لتقليل إتفاقية "ميركل" للتقشف المالي وتقليص الميزانيات بشكل عام تتمثل في أنه عندما تبدأ الحكومات خفض إنفاقها وعجزها ستقوم الأسواق بمكافأتها عبر الاستثمار في إقتصاداتها أكثر إنتاجية على ما يفترض، ولكن العكس هو الذي حصل ذلك أنه بينما قلصت اليونان وأيرلندا والبرتغال وأسبانيا ميزانياتها أصبح المستثمرون أقل استعداداً لشراء سنداتها، وغاصت عميقاً في الركود، أقنعت هذه الدول المستثمرين ليس بأنها ليست قوية مالياً فحسب وإنما أيضاً بأنها لن تصبح قابلة للنمو اقتصادياً قبل عدة سنوات مقبلة.
وبعد الانتخابات الفرنسية التي فاز بها الاشتراكي فرانسو أولاند فإن الخلاف بدأ يتضح بين ألمانيا الداعمة لبرامج التقشف، وفرنسا بقيادتها الجديدة التي تدعو إلى تحرك حكومي يهدف إلى تحفيز النمو.. كما أن ملايين الأشخاص الذين شاركوا في مسيرات عبر شوارع أوروبا في يوم العمل يشاطرون رأي أولاند.
ويبدو أن حركة كينزية باتت تجتاح أوروبا، وإن كانت ألمانيا مازالت مصممة على التصدي لها.
السياسات الكينزية تقوم على رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل وتدعيم المنافع الاقتصادية، وفي الحالتين طبقا سياسات اقتصادية كانت تختلف بل كانت مضادة لتلك التي كانت مطبقة في البلدان المجاورة، وفي الحالتين تبين خلال عامين فشل تلك السياسات الأمر الذي استلزم التخلي عنها.. الرئيس الجديد لفرنسا لوح بأن سياسات التقشف لم تعد خيار لفرنسا، ووعد بأن الاقتصاد الفرنسي سيكون أكثر إنتاجاً، وبأن الفرنسيين سيكونون أكثر رخاء وهي وعود سوف تتطلب مفاوضات جادة مع ألمانيا حول السياسات المالية.
إحتفل الفرنسيون بفوز الرئيس الجديد في ميدان الباستيل الشهير، وبالعودة للتاريخ، فإن جمهوراً كبيراً من الفرنسيين هاجم سجن الباستيك في 14 يوليو 1789، كان ذلك الهجوم تدشيناً للثورة الفرنسية الكبرى، وعندما أصبح نابليون بونابرت" إمبراطوراً لفرنسا أعلن عن عزمه تحويل موقع الباستيك القديم إلى نصب تذكاري على هيئة قوس ضخم يحتفل فيه بانتصاراته العسكرية.
هامش:
1. الاتحاد العدد "13454" 6/5/2012.
2. الاتحاد العدد "13456" 8/5/2012
3. الاتحاد العدد "13459" 11/5/2012
د.علي الفقيه
التقشف يضاعف الأزمة الاقتصادية لدول أوروبا وانقسام في مواقف القادة 2079