في هذا العصر تغلبت المادة على الروح، وانتشرت الأنانية وحب النفس، وظهر الانحراف والفساد والرشوة والمحسوبية وانتشرت الفوضى الأخلاقية، فبرزت بطانة السوء في يمننا الحبيب ترفع النفاق راية لها، فهي تملك تلطيف الكلام وتليينه بما يخدم مصالحها الشخصية ويلحق الضرر بغيرها، لا تعترف بأن العقل حكم والبرهان أساس العلم... وإنما تقلب الأمور رأساً على عقب، لا يهمها أن يلحق إنساناً ظلم أو يختزل حقه أو يؤتى على ذلك الحق كله.
يظهرون خلاف ما يبطنون، يسارعون في الاعتداء على غيرهم وفي أكل المال الحرام، كالاستيلاء على المال العام والرشوة وتعطيل مصالح الناس، ووضع العقبات في طريق أصحاب الحاجات، وتطويع القوانين والأنظمة واللوائح لخدمة مصالحهم الخاصة.
هذه الفئة تعرف القوانين جيداً وتدرك اللف والدوران حولها لأن المعرفة سهلة، إلا أن العمل عسير والناس لا يتفاوتون كثيراً في معرفة القوانين، ولكنهم يتفاوتون كثيراً في تطبيقها، وبطانة السوء أول من يقف عائقاً في وجه تطبيقها.
وليس أضرّ ولا أخطر على أنظمة الحكم والشعوب معاً من البطانة السيئة، فهي في الواقع غشاوة كئيبة تغطي وتحجب الحقيقة، وتنقل كل ما استطاعت صوراً كاذبة خادعة، قد يتخذ ولاة الأمر بمقتضاها قرارات مهمة وخطرة، تبتعد عن إصابة الهدف، وتترك أثرها السيئ حاضراً ومستقبلاً.
هذا لأن هذه البطانة الرديئة شديدة الحرص على تجاهل كل ما فيه المصلحة العامة، لأن النفاق والرياء والكذب والمراوغة والتخريب وكثرة الأيمان الباطلة، بل وكشف أسرار الأوطان، تجري في دمها وعقلها وتغير وتبدل وتحرف هذه البطانة كل صالح إلى طالح والخير إلى شر.
والرجل من البطانة السيئة هذه أبرز ما يميزه الأنانية»، فنفسه فوق كل شيء، يقدم مصلحته على كل مصلحة، ومنفعته على كل منفعة وذاته على كل ذات، لا يهمه غريب ولا قريب، ولا ذو رحم ولا صديق حميم، ولا عشيرة ولا قبيلة ولا وطن، شعاره أنا ثم الطوفان»، وهو منافق من الدرجة الأولى يظهر الرحمة والورع والصدق والإيثار والعفاف والوطنية وحب الخير، وباطنه يعجّ بالقسوة والفجور والكذب والأنانية ، فهو مثل الحية ملمس ناعم وسم قاتل.
وعلى الرغم من أن الأمانة والإخلاص للحاكم يقتضيان من كل فرد من أفراد بطانته أن ينقل إليه الحقيقة كما هي، لأن المستشار مؤتمن»، إلا أن هذا النوع من البطانة لا يتورع عن قلب الحقائق وتزيين القبيح منها، ويوحي للحاكم أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمور تمام التمام» وفي أجمل رونق، وأن الناس تعيش أزهى عصور التاريخ والتطور الاقتصادي والتنموي والثقافي... الخ.
وبهذا فإن البطانة التي استشرى نفوذها في يمننا الغالي من أقصاها إلى أقصاها وعانى ويعاني الكثيرون من ضررها تعتم على الحكام والقادة الحقيقة، وتقدم لهم صورة ضبابية لا تمكنهم من رؤية مواضع الخلل ليزيلوها، وهذا النوع من البطانة يقيم جداراً عالياً بين الراعي والرعية، فتزداد معاناة الناس، لا لأن الحاكم لا يريد إصلاح حالهم، بل لأن حقيقة حالهم محجوبة عنه.
وتأبى البطانة الرديئة فعل الخير والحض عليه، وتختار لنفسها طريق النفاق والأذى بكل أشكاله وأنواعه خدمة لمصالحها الآنية، مفضلة الفساد المالي والإداري على كل المصالح والقضايا، ما يلحق الضرر بالمجتمع حاضره ومستقبله، وبالحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية والفكرية والتربوية وغيرها، ما يجعل ضررها كبيراً على الدول والشعوب.
وهذا النوع من البطانة السيئة يحجم عن إبداء ما يعتقد أنه صحيح وإن كان متأكداً أن فيه خير الناس ونفعهم، ويؤيد آراء الشخصيات النافذة وإن جانبها الصواب، أو كان فيها ضرر واضح صريح، وديننا الحنيف يحذّر من هذا السلوك لما فيه من الخسة والدناءة والصغار.
وهذا النوع من البطانة السيئة لا يحجم عن إبداء الرأي لجهله أو عدم علمه، بل انه يعلم ولكنه صاحب تزييف ونفاق، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: "إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليماً، قال يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور، أو قال: المنكر".
وهذا هو الفرق بين بطانة السوء والبطانة الصالحة، فالأولى لا تجيد شيئاً إلا النفاق وطمس الحقائق وتزييف الواقع، وتسعى إلى تحقيق مصالح شخصية والبحث عن متاع الدنيا وزخرفتها، ولا تلتفت إلى أن أنفذ السهام دعاء المظلوم.
وعندما تغلب مصالح أفراد على مصالح الدول والمجتمعات يبدأ الفساد والتدهور، وينخر التأخر في عروق الاقتصاد، وتتأثر عملية حركته، وتتعثر عملية بناء التنمية، وتكثر الشعارات التي ترددها البطانة الرديئة المستفيدة أولاً وأخيراً.
وهذا النوع من البطانة السيئة يحاول دائماً، تصريحاً أو تلميحاً، أن يوحي للناس بأنه من أكثر المقربين للحكام، وإن كان الأمر على غير ما يقول، ويحاول استغلال ذلك لمنافعه الذاتية، ولتخويف من يعتقد بأنهم أعداؤه، وهو كثيراً ما يجيّر المشاريع الناجحة والإصلاحات الموفقة التي قام بها الحاكم لنفسه، فيدعي أنه هو الذي اقترحها، وأنه كان وراء تنفيذها.
والبطانة السيئة وهي للأسف ازداد عددها في ديار العرب والمسلمين عامة وفي وطننا خاصة ولا يأتي منها خير أبداً، وضررها على البلاد والعباد كبير، كما أن ضررها على الدول والأنظمة السياسية خطر، فهي تقلب الباطل حقاً والحق باطلاً، وتحجب أصحاب المظالم من الوصول إلى أصحاب صنع القرارات، وتستغل مكانتها في أكل أموال الناس بغير حق، وتشجع الفساد في مؤسسات الدول ويعم الظلم ويرفع العدل ويسود التخلف.
فالبطانة السيئة تسعى بكل جهدها إلى عزل ولاة الأمر عن الناس حتى لا يسمعوا إلا أصواتهم وأبواقهم، تحت ستار الولاء الزائف، وهي لا تملك سوى التعتيم وكثرة الكلام وعدم التأني بالرد على السؤال وخلوها من العلم النافع، لأنها بطانة حاقدة تعمل على النقيض، فتلحق الضرر بالناس وبالبلدان وتتحاشى النصح الأمين والنقد البناء.
إذاً، البطانة الفاسدة بهذا الوصف المبسط لا تترك أثرها على المواطنين وتحطيم أجهزة الدولة، بل تتعدى ذلك، فقراءة التاريخ السياسي قديماً وحديثاً تؤكد أنها معول رئيسي في تهديد الدول وأنظمتها السياسية، لأن هذه الفئة من الناس تتجاوز العدل والأمانة والصدق والأخلاق والتحلي بالمسؤولية الوطنية.
وأخيراً أنصح كافة المسئولين حكاماً ووزراء وأصحاب قرار أن يستفيدوا من سابقيهم، ولينظروا للسبب في قيام الثورات العربية والتي كان أهم سبب لقيامها هو البطانة السيئة لهم .
رائد محمد سيف
الحذر من بطانة السوء !! 2031