كان الناس قبل الإسلام يعيشون في غاية من الذل والخنوع والاستعباد للنخب الحاكمة المستبدة وحاشيتها التي تحيط بها، فجاء الإسلام ليحرر الإنسان من الرق والعبودية والذل وليجعل الناس سواسية لا فرق بين عربي وعجمي أو أسود أو أبيض أو حاكم أو محكوم إلا بالتقوى وغرس الإسلام ثقافة العزة والكرامة في أتباعه وجعلها من أزكى الخصال، لأنها ترتفع بالنفوس عن مواقع الذل والمسكنة والعطب وتجعل المسلم عن الذل أنوف وعن الهون والهوان عزوف لأن العزة والكرامة روح الحياة وقوامها وبها هيبة النفس الإنسانية واحترامها فإذا طمست هذه القيمة في المجتمعات فقد آذنت بفنائها، لأن من أميتت كرامتهم وقل إباؤهم وشلت نخوتهم وطوق عليهم الاستبداد وأغلقت أفواههم بأصفاد الاستعباد يحسون بألم بالغ في النفس ويشعرن بحزن شديد في الروح حتى وإن تظاهروا بغير ذلك.
إن الطغاة على مر العصور يعمدون إلى استعباد الإنسان وإذلاله حتى لا يتحرر لأنه إذا تحرر زال ملكه وسلطانه لذلك فقد عطلوا العظماء وأحبطوا النبغاء وحطموا العباقرة بل في زماننا هذا وللأسف صيروا كثيراً من علماء الشريعة عبيدا لهم يلوون لهم أعناق الأدلة ليبرروا لهم طغيانهم واستبدادهم وفسادهم وبالرغم من هذا كله فقد انتفضت الشعوب العربية خلال العام المنصرم فكسرت القيود والأغلال وخرجت تنشد الحرية والعدالة فسقط كثير من الطغاة ولا يزال البعض يترنح وآخر يتقنع ولكن الدور عليه آت وأن أفسح الله لهم في الأمد وإننا حين نقرأ كتاب ربنا وسنة نبينا نجد أنهما يحصران العزة في المؤمنين من الناس قال الله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) وإن أصيبت هذه الأمة بشي من الذل لكنه لن يدوم بل هو أمر آني ثم تكون العاقبة للمؤمنين في حديث تميم الداري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليتمن الله هذا الأمرـ أي الدين ـ ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عز يعز الله به الإسلام وذل يذل الله به الكفر).
إن المؤمن أجل من أن يتطامن لطغيان ويستخزي لمنان ويستكين لبهتان ويتضع لمكر أو هوان أو يداهن لئيما جبانا ذلك أنه اكتسب العزة من الإسلام الذي أنزله الله على رسوله حتى قال عمر(نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) فما عسى أن تفعل فلول الطغيان بقلوب تدرعت وتحصنت بالعزة وتسامت عن الخذلان فمهما كانت سطوة الطغاة فلن تفل من عزم الكرام الأحرار فعلى مر الزمان ما قارع الطغاة إلا الأباة وما رفع راية العدالة إلا أصحاب النفوس الكريمة لأنها تواقة للحرية وتعشقها لا لنفسها فحسب بل للأمة كلها هذه النفوس قد تضحي بأرواحها من أجل حرية أمتها وعزتها وكرامتها.. ومن هنا قدمت الأمة ولا تزال تقدم قوافل من الشهداء عبر الثورات العربية ابتداء من تونس مروراً بمصر الكنانة فليبيا فاليمن فسوريا ولا تزال الأخيرة تقدم القوافل بل ما بين حين وآخر بقية البلدان تقدم نتيجة لبقاء فلول الأنظمة المستبدة التي سقطت، فالثورة ليست منحصرة بإسقاط النظام، بل إن الثورة تمر بخمس مراحل وكل مرحلة منها ثورة متكاملة وتحتاج إلى الوقت الكافي هذه المرحل على سبيل الترتيب (إسقاط النظام فإسقاط فلوله فصياغة الدستور فالانتخابات فمرحلة الاستقرار والبناء) ولا يصلح أن يقفز على بعضها أو يؤخر بعضها، فإن حدث فقد يؤدي ذلك إلى كارثة في البلد وفشل للثورة إن هذه الثورات التي قامت في العالم العربي رسخت في الأمة ثقافة الاعتزاز غير أن ثمت ثقافة أخرى يخلط الكثيرون بينها وبين ثقافة الاعتزاز وأستطيع أن أطلق عليها ثقافة الابتزاز فالجيوش التي تخلت عن مهامها ونكثت العهد والقسم الذي أقسمته على نفسها وهو حماية الوطن والمواطن وانحازت إلى الأسر الحاكمة المستبدة أو الحاكم المستبد الظالم بحجة حماية النظام والقانون أو الشرعية وما علم ذلك الجيش أنه لا يوجد نظام ولا قانون ولا شرعية بل الشعوب في حال ثورة عارمة ويجب على الجيش أن يقف مع الشعب ومطالبه، لكنه ونظراً لهذه الثقافة التي يحملها هذا الجيش قام بقتل الثوار وإحراق الساحات بمن فيها كما فعل في ساحة الحرية في تعز الكرامة والعزة ظناً منه أنه سيخمد الثورة لكنه ما استطاع ذلك، بل إن الثورة زادت اشتعالاً ووهجاً.. هذه الثقافة التي ربى عليها النظام الجيش لا تكون نتيجتها إعزاز الأمة، بل هي ثقافة تؤدي إلى إذلال الأمة والاستهانة بها والإضرار بالوطن والمواطن فهي إذا ثقافة ابتزاز لأنها تحقق مصالح دنيئة لأفرد أو للحاكم المستبد وهكذا الإعلام الذي كان منحازاً للأنظمة الطاغوتية الديكتاتورية، فروج الكذب وحرض على قتل الشعب ومجد النظام الفاسد ورموزه ولمعهم عند كثير من عامة الناس واتهم الثوار بشتى التهم وهو يعلم أنه كاذب هذه الثقافة التي عند هؤلاء الإعلاميين ليست ثقافة إعزاز بل هي ثقافة ابتزاز كانوا يبتزون بها تلك الأنظمة ويأكلون بها المال العام مال الشعب، فإذا علمنا أن ما صرفه علي صالح من ميزانية وزارة الدفاع وحدها أكثر من سبعين ملياراً لحملة هذه الثقافة ثقافة الابتزاز علمنا أنها ثقافة مدمرة وما يقوم به الحوثيون وأنصار الشريعة وتنظيم القاعدة من أعمال عنف وقتل وتدمير وما يقوم به من كلفهم ويكلفهم بقايا نظام علي صالح لقطع الطرق وتفجير أنابيب النفط وأبراج الكهرباء وهكذا ما قام به كثير ممن أقالهم الرئيس هادي كحافظ معياد وقائد القوات الجوية وغيرهم، ما قام به هؤلاء وربما يقوم به اللاحقون ليس من ثقافة الإعزاز وإنما هو من ثقافة الابتزاز، فهم بثقافتهم هذه يبتزون أموالاً وينهبون أسلحة لأنفسهم أو حلفائهم من الحوثيين أو أنصار شريعتهم أو قاعدتهم وما هو حاصل اليوم من مطالب أنصار النظام السابق المعتصمين في التحرير أو المدينة الرياضية وتقديم مبالغ خيالية كي يرفعوا اعتصاماتهم، فهم يطالبون بتعويضات ومكافآت قدرها ملياران من الريالات ويريدون عشرين ألف وظيفة، هذا من ثقافة الابتزاز التي رباهم عليها النظام السابق، فلقد درج النظام البائد على أنه يقول للمواطن هات هات ولم يقل له يوماً خذ إلا لما قامت الثورة الشعبية السلمية أخرج الأسلحة من المخازن وقال لبعض ضعفاء النفوس من الناس خذوا الأموال والأسلحة واقتلوا إخوانكم الثوار وما يقوم به بعض فصائل الحراك من المطالبة بالانفصال وتشطير الوطن ليس من ثقافة الإعزاز وإنما هي من ثقافة الابتزاز، فالخصومة إنما هي بين الشعب ونظام فاسد ومتنفذين فاسدين، فالعقوبة يجب أن توجه لهم ولا يجوز لنا أن نعاقب وطننا الحبيب الغالي.
وخلاصة القول أن الفرق كبير والبون شاسع بين ثقافة الإعزاز وثقافة الابتزاز وبين من يربي ويريد للشعب الثقافة الأولى ومن يربي ويريد للشعب الثقافة الثانية.. والله من وراء القصد.
الشيخ / عقيل محمد المقطري
قضايا الأمة بين ثقافة الإعزاز وثقافة الابتزاز 1948