في شهر سبتمبر القادم يصادف الذكرى الخمسين للثورة اليمنية كأول ثورة في شبه الجزيرة العربية.. خمسة عقود بكاملها ماذا أنجزت هذه الثورة؟ وهو مجرد تساؤل ليس كشف حساب أو محاكمة، لكن وعلى مدى هذه السنوات لا زالت اليمن بشعبها ورقعتها الجغرافية التي تزيد عن نصف مليون كيلو متر مربع تمد يدها طلباً في استجداء المساعدات والهبات، ناهيك عن القروض وفوائدها المتراكمة، فالقروض والمساعدات الدولية لا تعد حميمة وطيعة إلى الحد الذي يمكن اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من دخل الخزينة العامة ومصروفاتها، على اعتبار أن الهدف الرئيسي لمثل هذه المقروض هو خدمة البلد المقروض وتنمية مصالحه داخل البلد المدين وليس العكس، لأن حجم هذه القروض وتحديد أغراضها وشروطها وفوائدها يشكل الطرف الدائن عامل الحسم والمتصرف الحقيقي فيها وفقاً لمصالحه مهما أبدت المحادثات ونصوص الاتفاقيات بعض النعومة..
فالقاعدة الاقتصادية التي تحكم مصالح الدائنين والمدينين أو بالأصح الدول الصناعية المتقدمة الدائنة والدول النامية المدينة، تسير في اتجاه متناقض وبقرارات غير متكافئة ومختلة التوازن دائماً، ولعل قراءة التاريخ بعض الأحيان مفيد، ففداحة المأساة والدور التخريبي الخطر لهذه القروض في البلدان المتخلفة أعاقت نموها في إطار سلسلة من الحلقات اللانهائية ابتداءً من الغزو الاستعماري والحروب والصراعات الإقليمية والدولية وانتهاءً بالاغتيالات السياسية وتخريب الذمم وإفساد الضمائر والأخلاق.
إن المهمة الأساسية للقروض والمساعدات الدولية للدول الدائنة هي تخرب الاقتصاد الوطني وفتح البلاد كسوق لتوزيع سلع الدول الصناعية المستوردة وتحقيق التبعية السياسية والاقتصادية للخارج، والحيلولة دون إحداث تنمية حقيقية، إضافة إلى استمرار وتزايد النهب والابتزاز من خلال الأرباح والفوائد المحولة إلى الخارج وفرض أنماط معينة من الاستهلاك الغربي والحياة الطفيلية لمعظم فئات المجتمع، وما يرافق ذلك من فقدان الاستقلال الاقتصادي والإساءة إلى الاستقلال السياسي والإخلال بالسيادة الوطنية، حيث يتم تخريب مقومات الاقتصاد الوطني والإنتاج وتدميره عن طريق المنافسة الغير متكافئة وتحويله من اقتصاد انتاجي يحقق للمجتمع ضرورات الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد طفيلي مشوه قائم على العمولات والتوكيلات والمضاربة بالعقارات والسلع القادمة من الخارج وتوزيعها..
يمكن الجزم أن حوالي 90% من قروض الدول المتقدمة للدول النامية والأقل نمواً هي قروض سلعية وخدمية وائتمانات تجارية ليس لها أية جدوى استثمارية إنتاجية تنموية حقيقية، لأن ذلك يتناقض مع مهمتها الأساسية، كما أن هذه المساعدات والهبات هي كذلك أيضاً، فكل معونة ثنائية تتضمن اختيار نوع معين من التكنولوجيا ومواصفات معينة للمعدات بغض النظر عن كونها الأفضل عالمياً أو الأنسب لظروف البلد الذي يتلقى المساعدة، بل إن إتاحة تمويل أجنبي ولو جزئي يلعب في أحيان كثيرة دوراً حاسماً في اختيار مشروعات التنمية، حيث جرى العرف في بعض الدول النامية على إعطاء أولوية للمشروعات التي يتوافر لها تمويل أجنبي، ما يعني ذلك أن أولويات التنمية لا تتحد وطنياً في ضوء الاحتياجات الحقيقية للتنمية المستقلة وإنما تتحدد خارجياً بما تمنحه هذه الدولة أو تلك من تمويل، الأمر الذي يؤدي إلى تشويه التنمية وإخلالها..
القروض والمساعدات والهبات أشبه ما تكون بأفواج الاقتحام الأولى لأوضاع البلدان المتخلفة، ويتركز مهمتها إلى جانب القضاء على الصناعات والإنتاج الوطني فإنها تمهد للوصول إلى الهدف الأساسي المتمثل بفتح السوق المحلية على مصراعيها بلا منافس أمام التجارة الدولية والاحتكارات العالمية.. كما أنها مصدر مكمل لعملية الابتزاز والنهب الدولي الذي تسجله دائماً الأرقام الفلكية لميزان المدفوعات للبلدان النامية..
كل القروض تتميز بالطابع السلعي والخدمي والتجاري والدور السلبي بحكم طبيعة أهدافها وبحكم حالة هذا التشبث والتعدد الكبير للمجالات والأغراض التي تختارها لنفسها داخل البلاد، رغم أنها لا تشكل سوى حجم ونسبة قليلة بالنسبة لإمكانيات الدول التي تقدمها وهي دول صناعية وغنية أو بالنسبة للمجالات التي تستخدم فيها وما تحتاج إليه من رأسمال حقيقي، لأنها لا تتصدى لبناء وانجاز مشاريع بذاتها بقدر ما تحرص على توزيع نفسها على أكثر من مجال والمشاركة في أكثر من مشروع وحتى أبسط الأنشطة الصغيرة والأجهزة الإدارية ابتداءً من إقامة المباني وحتى تجهيز وتأثيث المكان ودفع فوارق أجور الموظفين والجنود، الأمر الذي يؤكد الهوية السياسية المباشرة والغير مباشرة لها ويزيل عنها كل معنى من معاني الاستثمار الاقتصادي المفيد.. المساعدات والمعونات والهبات بمختلف أشكالها ومصادرها المتعددة لا يختلف دورها ووظيفتها ومردودها الأخير عن دور وظيفة القروض، بالرغم من ملمسها الناعم وحديثها البراق وعناوينها ولافتاتها الكبيرة المعلقة على واجهات المباني وعربات النقل وأكياس القمامة واللبن والكتب المدرسية ومشاريع الدعم والمعونة الفنية الوهمية.. الصورة تبدو أكثر سوءاً بعيدة عن أي جدوى اقتصادية أو اجتماعية أو فنية أو حقيقية تذكر..
د.علي الفقيه
السلطات المتعاقبة في اليمن لم تجيد سوى التسول 2244