في تناوله سابقة نشرت العام الفائت وعقب أسابيع فقط من ثورة الشباب؛ كنت قد عبرت عن خوفي وقلقي من تكرار ما حدث لثورة 26سبتمبر 62م التي تم احتوائها وإفراغها من مضامينها الثورية المتحررة من قيود وأغلال وأفكار وظلم العهد الإمامي الكهنوتي السلالي العنصري، ففي موضوع وسمته ب( مثلث العم سنان) أوردت مطالبة الشيخ/ سنان أبو لحوم وزملائه من مشايخ ووجهاء الشمال الذين كانوا قد رفعوا بمذكرة جماعية إلى مجلس قيادة الثورة بعيد احتدام الخلاف بين الثوار الجمهوريين حول إدارة الدولة الوليدة.
فكم تمنيت لو أن المشايخ عادوا لمضارب قبائلهم والضباط إلى جنودهم وثكناتهم والتجار إلى بضاعتهم وتجارتهم وترك قيادة الدولة للمتخصصين والعارفين بشئون السياسة والإدارة؟ هكذا كانت مطالبة الموقعين الغاضبين حينها ربما من قادة الجمهورية الذين لم يفلحوا في قيادة دفة الدولة الجديدة نتيجة لتلك الفوضى العارمة التي أوجدتها تدخلات مشايخ وأعيان القبائل وكذا كبار الضباط والتجار.
ولكن ليس كل "ما يتمناه المرء يدركه " ـ وفق تعبير المتنبي ـ إذ أن الشيخ سنان ورفاقه لم يعودوا إلى قبائلهم ولا الضباط إلى معسكراتهم أو التجار إلى تجارتهم، فلو أنهم نفذوا وثيقتهم وتركوا حكومة الثورة للإدارة المدنية المختصة؛ لما كنا اليوم في ذات المربع الأول؛ بل وأسوأ منه بكون مثلث القبيلة والعسكر والتجار الطفيليين – التجار الحقيقيين غالباً مع الدولة والنظام – تضخم حجمه ونفوذه لحد هيمنة أضلاعه الثلاثة على سلطة وقوة وخزينة الدولة.
رئيس حكومة الوفاق/ محمد سالم باسندوه كان شجاعاً وجريئاً حين لم يُضمِّن 30مليار ريال للمشايخ في موازنة الدولة للسنة المالية الحالية 2012م، ناهيك عن إنفاذه لقانون المبيعات وهو القانون الذي ظل حبيس الأدراج منذ 2005م علاوة لإقرار حكومته رفع الدعم عن مادة الديزل. لا أعلم ما إذا كان باسندوة يدرك حقيقة أنه وجه ثلاث ضربات موجعة وقاصمة لضلعي المثلث اللعين وفي وقت واحد !
لذا فالمشايخ والتجار الطفيليين المتهربين من دفع مليارات المستحقة للدولة لا أعتقد أنهم سيصومون عن القول والفعل إزاء صفعات باسندوة الموجعة للمشايخ العابثين وللتجار المتهربين من الضريبة أو المهربين للديزل، سيختلقون للحكومة المشكلات والأزمات ولن يدعوها تمضي بسلام دونما منغصات أو مطبات كبيرة معيقة لحركتها ومسيرتها.
عندما نتحدث عن مشايخ القبائل؛ فلا نقصد الإساءة أو التجني على مشايخ القبائل كافة، فهناك من المشايخ الشرفاء المحترمين الذين لا يعرفون طريقاً لمصلحة القبائل أو لدار الرئاسة أو لحق عام أو خاص؛ إنما أتحدث هنا عن مشايخ نهبوا وأفسدوا ووأدوا، الثورة والجمهورية والوحدة.
فهؤلاء المشايخ يحسب لهم أنهم أحبطوا كل محاولات الرئيس السلال وبذريعة تدخل المصريين بشئونهم الداخلية - وهي الحجة التي لم نسمعها قط حين تقاضى هؤلاء مرتبات شهرية من الشقيقة الجارة – كما أجبروا حكومة الأستاذ/ أحمد النعمان على الاستقالة قائلا تعبيره الشهير: لا أمل..لا أمل.. لا أمل ) فبرغم أن النعمان لم يذعن للرئيس/ عبد الناصر، وتلويحه برفع الدعم عن حكومته في حال لم تقم باستبدال الوزراء العيني والعطار وأحمد عبده سعيد بداعي انتماء الأول للبعث فيما الاثنين لزواجهما من فرنسية وأميركية، إلِّا أن النعمان رفض هذا التدخل بشئون حكومته، لكنه وعندما تعلق الأمر بتقليص نفوذ المشايخ لم يجد بداً من الرضوخ لجبروتهم.
من بعد السلال والنعمان كان المشايخ قد وقفوا حجر عثرة أمام حكومة الدكتور/ محسن العيني الذي ما إن أقترب من مسألة اعتماد وسلطان المشايخ حتى قامت وانتفضت عليه البلاد والعباد، فلم تهمد سوى باستقالة رئيس الحكومة.
الرئيس الشهيد/ إبراهيم ألحمدي هو الآخر كان ضحية مشايخ القبيلة الذين قاوموا وبصلف حركة التصحيح التي حملها الرئيس الحمدي على كاهله مذ توليه السلطة في 13يونيو 74م فمع أن غالبية اليمنيين في الشمال رأت بالحركة الانقلابية السلمية ثورة لتغيير مجمل الأوضاع العبثية السائدة إذ لم تكن انطلاقة جديدة لتصحيح مسار ثورة سبتمبر واستعادة وهجها ومضامينها الوطنية العادلة؛ إلا أن فكرة بناء الدولة العصرية المؤسسية اصطدمت أيضاً بذات القوى القبلية التي لم يرقها فقدانها لنفوذها وسطوتها فكانت نهاية الرئيس الحمدي مأساوية ومكلفة للغاية.
وإذا كان رئيس حكومة الوفاق قد وضع نفسه في موضع لم يجرؤ أحد على مجرد الاقتراب منه، فأن الرئيس عبد ربه هو الآخر كان قد وجه ضربه قويه أفقدت مثلث القوى التقليدية توازنه وتماسكه، فمن دون تخطيط أو أتفاق مسبق بين الرئيس وحكومته وجد الاثنان نفسهما في مواجهة مثلث قديم جديد.
نعم فالرئيس لم يكن ربما بحسبانه أنه بقراراته الشجاعة والجريئة القاضية بإقالة وتغيير القيادات العسكرية المهيمنة على الجيش والأمن يكون قد وجه ضربة قاسية ومؤثرة لمثلث (العم سنان) وتحديداً لضلع كبار ضباط العائلة والقبيلة.
فإذا كان باسندوه قد وضع ذاته وحكومته في مرمى نيران قوتين تقليديتين هما المشايخ والتجار الفاسدين؛ فإن الرئيس عبد ربه ومن حيث لا يدري قد دعم وعزز حكومته بقوة سياسية ومعنوية كان لها أثرها البالغ في خلخلة وكسر عظم هذا الثالوث - العسكري والقبلي والتجاري – القاتل والمدمر لكل محاولة وفرصة يراد منها بناء وتشييد الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على مداميك العدالة والمواطنة المتساوية واحترام الحريات والحقوق.
السؤال الماثل اليوم هو: ما مقدور الرئاسة والحكومة المؤقتتين فعله إزاء ثالوث خطر ومدمر عمره وحجمه وصلابته أكبر من أن تنال منها ضربة أو ضربات؟ نعم إنه مثلث راسخ ومتجذر في بنيان مجتمعي مازال ولاؤه مطلقاً للقبيلة وأعرافها وتقاليدها أكثر من ولائه للدولة وقوانينها ودستورها.
لكن ذلك لا ينفي حقيقة هذه الأضلاع الثلاثة التي لم تعد بقوة وتماسك يؤهلها لمهاجمة وضرب أية سلطة تقترب من مصالحها ونفوذها، فاليوم الرئاسة والحكومة هما في موقف وموضع أفضل من أية رئاسة أو حكومة سالفة فشلت في إقامة الدولة وتجسيد قيمها ونظامها الجمهوري.
على هذا الأساس يمكن القول بأن الصراع القائم بقدر ما هو صراع قديم جديد هدفه سيطرة الدولة وفرض سلطتها على كامل سيادتها ومجتمعها ومقدراتها وقوتها، وإما العكس إذ سيبقي ثالوث العسكر والمشايخ والتجار الفاسدين هو القوة النافذة المهيمنة على الدولة وسلطاتها، الراجح هو أن خيار الدولة سيكسب المعركة شاء الثالوث أم رفض وقاوم.
في الحالتين الرئاسة والحكومة ستواجه متاعب جمة، إنها ضريبة ينبغي دفعها إنابة عن خمسة عقود من الفشل والإخفاق، البعض غضب وثار حين وصف المفكر والإعلامي العربي/ محمد حسنين هيكل ثورة اليمن بأنها ثورة القبيلة للاستحواذ على الدولة، الواقع أنه لم يقل سوى ما براه ظاهراً على السطح، الناظر في جوهر الصراع سيجده بين ثالوث ما قبل الدولة وبين سلطة الدولة، أياً كان قوة ومناعة هذا الثالوث، لكنه هذه المرة بالذات سيكون مجبراً على الدفاع لا المواجهة وشتان ما بين الاثنين.
محمد علي محسن
هادي وباسندوه وثالوث الشيخ سنان 2608