أرى البشائر تترى في نواحيها من بعد يأسٍ طغى من فعل طاغيها
تشخيص المرض وتحديد الخطر!
من بعد زمن طال كثيراً، انتشرت فيه مختلف الأمراض المادية والمعنوية في الأمة، خاصة العربية، واختلفت عقلاؤها حول داء الأدواء، وأخطر الأسباب التي أوصلت الأمة إلى ضعف عام لم تعرفه في تاريخها.. اتضح الأمر جلياً، وشخص المرض، وانكشف مصدر الأمراض، والأخطار، وحُدد بدقة، دون عناء السفر بالمريض، ودون استقدام الخبراء والمستشارين والاستشاريين، ودون عقد المؤتمرات والندوات لهذا الشأن، ودون تسخير المال والإعلام لذلك ظهر الداء والدواء على أيدي الشباب، ظهر ذلك برؤية عجيبة، وأعمال مصيبة (صائبة) بدأ التشخيص برؤية ذلك الشاب التونسي محمد بوعزيز، حيث وصل إلى قناعة بأن لا حياة كريمة، ولا عشر كريمة في ظلال الحاكم وزبانيته، فواجه ذلك بموقف سلبي في ظاهره، موقف العاجز الضحية، فقرر مغادرة الحياة الذليلة إلى مصير مجهول رآه أفضل.. فكان لذلك أول كاشف حقيقي للداء، فالداء كل الداء تتمثل في قلوب وأعمال وخبث من تسلقوا على حين غرة، فتسلموا مقاليد أمور البلاد والعباد، فسلكوا سبيلاً غير سبيل الحكام في العالم كله، أفقروا الأمة وهي عنيفة، أضعفوها وهي قوية، مزقوها وهي موحدة بدينها، ولغتها وأرضهاً وهمومها وقضاياها، زرعوا فيها العداوة والبغضاء والأصل أنها متحابة، صنعوا بينها حدوداً زادت على المائة، وجعلوا تلك الحدود موانع التقاء أبناء الأمة الواحدة، وتبادل المنافع بينهم، بل زرعوا في نفوسهم أبناء كل قطر من الأقطار المتجاورة أن العدو الحقيقي التاريخي هو الجار القريب، وذلك كذب مصنوع تعس به التابع والمتبوع،ليس على العدو الحقيقي بأس ولا شك فيه ولا ريب أن يدخل معززاً مكرماً، رافعاً رأسه إلى السماء لما يجد من تسهيل وتعظيم وتبجيل، ولا مانع أن يستقر ويعمل فيصل إلى أعلى الدرجات في أعظم الشركات، لما يظن أنه العبقري الذي لا يبارى، كيف لا و هو قادم من خلف البحار، بلباس التقدم والتحضر، والعلم والمعرفة وأخونا الجار ومهما كان مؤهلاً ومهما كانت الحاجة إليه لا بد أن يمنع وإن نتكلم لا يسمع ولا غضاضة أبداً أن يحرم من كل حق إنساني في بلاد الجار، لأن صاحب حاجة، وليس من الخواجة..
وإذا نظرت إلى تلك الدولة العربية العظمى وكل دويلاتنا عظمى كيف تعامل أبناؤها النبلاء فلا تجدهم أكثر من عبيد، وستجدها تغرس فيهم معاني الذل والخنوع، وإرجاع أمرهم كله إلى مالكهم الأرضي، فإن حصلوا على شيء من حقوقهم فمن فضله ومنته، وإن حرموا فلا يلام لأنه يملك الإنسان في أرضه وما ملك، أقنع شعبه أنه لا يسأل عما يفعل، ولذلك فانه محصن بما غرسه فيهم، بما سنه من قوانين تحاسبه، وإن وضع قانوناً خاصاً بمحاكمة كبار رجال الدولة – كما هو عندنا – فإنه غريب وعجيب، يستحيل تطبيقه، ولذلك لم يسمع عنه الناس، ولا يعلمه إلا القليل من الناس. مع هذه الظلمات التي أنتجت ظلمات أكثر, شخص الشباب الداء الأكبر وحددوا الخطر الأخطر،فوجوده في دور وقصور الرئاسة، وما تفرع عنها، ووجدوا أن لا دواء لها غير الثورة السلمية المتمثلة في رفضهم هذا النوع من الحكام، والخروج غير المسلح والتظاهر، والاعتصامات والثبات، والإصرار على مطالبهم المشروعة.. وهذه هي البشارة التي يحق لنا ولغيرنا الاستبشار والتبشير بها، فهي منعطف هام جداً في تاريخنا الذي نعيشه، فقد وضح الطريق واستبان السبيل بعد أن استنار الشباب بنور الله الذي حمله الدعاة الربانيون فاستضاء به الشباب أكثر من غيره، فحق لنا أن تبقى هذه البشارة مناراً، ونوراً لا ينطفئ، خاصة أنها لها ما بعدها، ولصلتها بالطغيان الذي يعم بلاءه كل الناس إن استشري، ويتأثر بزواله كل الناس إيجاباً، فا لله عز وجل قد قال لرسوله بعد أن أثنى على الذين يجتنون الطاغوت (فبشر عباد) قال تعالى": والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب". الزمر
ونحن اذ نستبشر ونبشر إنما نتوق إلى مستقبل تثمر هذه البشائر فيه، وجيل قادم لا يمسه شيء مما مس الأولين، ولا يحمل الأغلال التي كانت عليهم ونستبشر ونفخر ونأمل ونتفاءل..
وإلى بشرى أخرى..
د.غالب عبدالكافي القرشي
بشائر ......... 1766