كنت ومازلت وسأظل معتقداً جازماً أن الوحدة العربية هي قَدرُنا الأمثل وهي الحقيقة التاريخية التي لا يُمكن أن نستمر في التَّهرُّب منها إلى مالا نهاية بالرضُوخ لواقع الشكل السياسي القُطْرِي المفروض علينا كنتيجة غير منطقية لطبيعة المتغيرات السياسية الدولية في الحقب التاريخية القريبة الماضية..اليوم هناك متغيرات وطنية ودولية تكاد تقترب من تهديدنا مباشرةً في أمننا القومي بل وفي وجودنا الإنساني، فلقد تغيرت مراكز القوى الدولية بتغيُّر الخارطة السياسية الدولية نفسها وتغير ثقافات الشعوب التي كونتها نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية وأثَّرت علينا كعرب أيضاً في أشكالنا السياسية وبُنيتنا الثقافية وجهازنا المفاهيمي, هذه المتغيرات ومعطياتها التكوينية ابتعدت نسبياً عن منظومتنا الثقافية العربية أو تكاد تتلاشى في مرحلتنا التاريخية هذه عن مراكز الاستسقاء الثقافي للأجيال المعاصرة، فانعكس ذلك إيجاباً على مفهوم محتوى الفكر السياسي والاجتماعي العربي الذي بدأ يتبادر إلى ذهنه ووجدانه أنه أضحى اليوم خارجاً عن الدورة الحضارية وأنه مُهمش في وجوده على مستوى المنطقة والعالم مقارنة بتاريخه وبحجم رصيده الإنساني ومعطيات إمكانياته المادية والمعنوية، هذه المتغيرات في المفاهيم والأفكار والشعور بالدونية تجسَّد في ردة فعل اجتماعية على هيئة ثورات سُميَّت فيما بعد بثورات الربيع العربي التي مازالت إلى الآن غير مستقرة اجتماعياً وتُنتج أسباب استمرارها بصورة شبه يومية مُبتعدةً بذلك عن الهدف الثوري الإستراتيجي وعن الوجدان الحقيقي الذي تصبو إليه في اللاشعور السياسي وهو الوحدة العربية الشاملة.. أبداً لا قيمة لهذه الثورات ولا لربيعها ما لم تصل وتستقر في أحضان الوحدة العربية، ذلك الحُلم التي عاشت من أجله الأجيال الماضية وتأمل في تحقيقه الأجيال الحاضرة, لن تستقر هذه الثورات حتى تصل في مداها الزمني إلى الوحدة الشاملة وستظل في صراع مع ذاتها ومحيطها حتى يتحقق لها ذلك.
وعلى نفس السياق العقل السياسي العربي اليوم يعاني أزمة وجدان الذات، فهو يبحث لنفسه عن مستقر ومستودع في خِضَّم الأحداث الدولية والثورية الوطنية، لكن دون جدوى فهو يسعى لذلك بشكل قُطْرِي متفرِّد في عالم التكتُّلات والتجمُّعات السياسية والعسكرية المندمجة في كيانات عملاقة فيصاب بإحباط وينكفئ على ذاته ليعيش صراعاً تكتيكياً يميل إلى العُنف أحياناً مع مكوناته ومع شعبه كبُرهان لجدوى وجوده أمام نفسه والعالم مُلتهياً بذلك عن طبيعة الصراع الإستراتيجي المفروض عليه في محيطه وفي العالم،كل ذلك ناتج عن غياب الوحدة العربية الراسخة في الضمير الشعبي وفي أعماق التاريخ والتي يتهرب منها العقل السياسي العربي تحت ضغوط شكله السياسي المُنتَج خارج تاريخه واعتقاده أنَّ الوحدة فيها انصهار لوجوده القُطْرِي الصغير في بوتقة الوحدة الكبيرة، غير مُدرك أنها في حال الوجود عالم سياسي وحضاري رحب وفضاء أوسع من عالمه القُطْرِي الضيِّق الذي يكاد يلتهمه العالم المُتكتل المُتجبر.
اليوم لم يعد أمام الأقطار العربية المُجزَّئة وكيانتها المحدودة في الكرة الأرضية من حل لإشكاليات وجودهم السياسي المُتهالك التي تكاد تقضي عليها إيقاعات العصر الحديثة وطبيعة المرحلة التاريخية، ليس أمامهم إلا الانصهار القُطري في شكل سياسي مُفترض جديد يجمعهم فيه ولقد أدرَكتْ هذه الحقيقة بعض القيادات العربية في مراحل تاريخية سابقة فنادت بالوحدة وشرعت في إطلاق مبادئها وفي أحياناً أخرى كانت تخطو نحوها فعلياً، لكن كانت الإشكالية تكمن في أن الثقافة الاجتماعية العربية والجهاز المفاهيمي العربي حين ذاك لم يرتقيا إلى مستوى المشروع الوحدوي.. هذا جانب والجانب الآخر أن من أطلقوا هذا المشروع لم ترقّ وسائلهم التنفيذية في تحقيقه إلى المستوى المنطقي المعقول والذي كان الأجدى أن يبدأ بتهيئة الأشكال السياسية العربية القطرية، لتقبُّل هذا المشروع متزامنةً مع تهيئة الجهاز المفاهيمي العربي لذلك، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. وبالإستقراء التاريخي استبان أيضاً أن من تبنُّوا هذا المشروع لم يكن لديهم الجدّية المُفترضة في تفعيله ويبدو أنهم استهدفوا من خلاله في اللاشعور السياسي كسب عواطف الجمهور العربي واستهلاكه ولم يستهدفوا جدّياً تخلُّقها، لسببٍ بسيط أن أوضاعهم القطرية السياسية في ظل المعطيات الدولية حين ذاك لم تكن تستدعي تفعيله، بل إن خطوات تفعيله كانت تُشكل خطراً على وجودهم القُطْري ذاته وعلى البرنامج السياسي الدولي ولذلك كان وجود الجامعة العربية ضرورة سياسيه للقُطْرية العربية ورغبة اُمَمِية حتَّى لا تتحقق الوحدة ويختل ميزان القوى لغير صالح إسرائيل، فاشترطت الجامعة لمنع هذا التخلق السياسي في نظامها الأساسي أن يكون المُنضمَّون إليها من العرب في أشكالهم السياسية أقطاراً مُمزقة وتظل كذلك إلى الأبد.
أقول هذه الكلمات بقصد الإيضاح التاريخي لحجم الإشكالية التي رافقت مُصطلح الوحدة العربية وأن هذه الإشكالية أصبحت اليوم مُتلاشية نسبياً وأن الثقافة العربية اليوم ارتقت إلى مستوى المُصطلح والجهاز المفاهيمي أصبح مُدركاً لضرورة الوحدة، بل إنها أصبحت فاعلاً حقيقياً في الذهن الاجتماعي والسياسي العربي ولم يعد هناك من عائق إستراتيجي يقف أمام تفعيلها في الواقع المحسوس سوى الرغبة والإرادة وإيجاد الشكل السياسي المُفترض الذي يتناسب مع الوضع الطبيعي للوجود العربي على المستوى الجُغرافي والديمُغرافي..
ولَكَمْ كان رائعاً حين قرأتُ لأحد الإخوة العرب في تعليقه على إحدى مقالاتي حين قال بالحرف الواحد: إن خادم الحرمين طلب في إحدى اجتماعات مجلس التعاون الخليجي الانتقال من التعاون إلى الوحدة وأنا بدوري كمواطن عربي أقول لخادم الحرمين: حان موعدك التاريخي لتتبنَّى مشروع الوحدة العربية الشامل، لا لتطلبها فقط على المستوى الخليجي، فلقد استأمنك الله على مُقدَّساته وبيته العتيق لحكمة يعلمها هو ومن مُقتضيات حفظ هذه الأمانة تفعيل الوحدة العربية وهي تقع على عاتقك أنت شخصياً أمام الله وأمام التاريخ في ظل حجم المتغيُّرات المؤثرة على الوجود العربي ذاته خاصةً في الخليج العربي واليمن وبالضرورة مقدساته، فلا تَقِفْ حدود مسؤولياتك الأخلاقية والسياسية فقط على رعاية المملكة وأبنائها، بل تتعدَّى ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى حماية الأمة العربية والدفاع عن مُقدساتها بسياج الوحدة.
قد يقول قائل: ولماذا اختيار المملكة بالذات لتتحمل مسؤولية تبنِّي مشروع الوحدة؟ أقول إنَّ للمملكة مكاناً وثِقلاً على المستوى العربي والدولي ولملِكها حباً واحتراماً لشخصه وسمو أخلاقه وما لمسنا منه من صدقٍ في تعامله مع القضايا العربية وفي نفس الوقت الأمل أن نشهد ملامح تغيير استراتيجي واعٍ خلَّاق في قمة الهرم السياسي العربي، منبتُه جُغرافية الكعبة المقدسة، قد يُصلِح ما رافق تجربة الماضي السياسية القُطْرية من سلبيات على كل المستويات الاجتماعية ويجمع شتات الأمة العربية على هدف كُلِّي قد يُجنبنا مزيداً من الثورات على المستوى الوطني، فالكُل العربي ينشد الوحدة في المحصلة النهائية من هذا الحِرَاكْ السياسي والثوري.. فهل سيفعلها خادم الحرمين ويدعو للوحدة العربية ويتبنَّى مشروعها ويكون بذلك شخصية العصر ومفاجأة التاريخ ؟! ربما..فليس ذلك على الله بعزيز..
د/ عبدالله الحاضري
هل تفعلها السعودية؟ 2194