من منَّا يستطيع أن يحصي عدد المرات التي دخل فيها إلى بيته ولم يشعر به أحد أو اتصل بالهاتف ولم يرد عليه أحد؟! فاكتشف أخيراً أن جميع أفراد العائلة متسمّرون أمام شاشة التلفاز؟! من يستطيع أن يثبت بأن (التنشئة الاجتماعية) مسؤولية المدرسة وحدها، بعد أن استولى التلفاز على ما نسبته 80% من الوقت الحر للأطفال، كما تؤكد إحدى الدراسات؟!هل ما زالت نظرية (التنسيق بين الإعلاميين والتربويين) التي طالبت بها ندوة ماذا يريد التربويون من الإعلاميين وماذا يريد الإعلاميون من التربويين قبل (25) عاما؟.. هل ما زالت صالحة لهذا الزمن؟!.. بعد أن وصل عدد محطات التلفزة الفضائية التي تبث 24 ساعة إلى أكثر من0 150 محطة؟!من يستطيع أن ينفي العلاقة بين تزايد نسب الجريمة والسلوكيات الخاطئة وبين ما تبثه بعض القنوات الفضائية حتى أن 25% من حالات الزواج في إحدى المحافظات تنتهي بالطلاق!! بينما وصلت النسبة في منطقة كبرى إلى 38%.- من يستطيع أن يثبت عدم علاقة وسائل الاتصال بتزايد حالات ضعف الهمة وحالات الفتور التي أصابت نسبة كبيرة من الشباب على الرغم من تزايد فرص النجاح أمامهم التي هيأتها الظروف المتقاطعة في ظاهرها والمتآلفة في حقيقتها؟!- لماذا هذا التسابق المحموم من القائمين على بعض القنوات الفضائية.. ما الذي أضافته قنوات الشباب التي تدّعي بأنها موجهة لبناء شباب المستقبل.. إلا شباب إلا هوية لهم.. شباباً مختلطاً بعادات وقيم مخدوشة!!.. كلها تغريب في تغريب وإبعاد نظري وعقلي للعربي المسلم عن واقعه وحضارته؟!- كيف نستطيع أن نحمي أسرنا وأطفالنا من مخاطر الفضاء التي تقدم وجباتها كل يوم في إطار من المتعة المزيفة أو المتوهمة؟!- هل يمكن أن نوجد قنوات تواصل (أصيلة) وليست بديلة، تقدم الثقافة الهادفة، وتستوعب رغبات واهتمامات الجمهور المشاهدين على مختلف أعمارهم ومستوياتهم العلمية؟
لقد أكّدت إحدى الدراسات أن هناك أكثر من (4000) دراسة محلية وعربية ودولية أجريت في العلاقة بين درجة ونوع المشاهدة وتأثيراتها على المشاهد أكدت معظمها أن هناك علاقة قوية وطردية بين ما يقدم على الشاشات للمشاهد وبين الخلل الذي أصاب كثيراً من القيم والسلوكيات: كالاستهلاك المفرط، وضعف التحصيل الدراسي للطلاب،وانتشار الجريمة، والعنف، وتصدير العادات، وتشويه الصورة، والترويج للقدوات المنحطّة، واستلاب العقل والمنطق، والتفكك الأسري، والأخطار الصحية، وفتور العلاقات الزوجية، وانتشار العلاقات المحرمة، والتمرد على المجتمع، وعدم تحمل المسؤولية،وارتفاع حالات حدوث الطلاق، وعزوف الشباب والفتيات عن الزواج.!! بعد هذا كيف يمكن أن نوجد نوعا من (المصالحة) بين ما يقدّمه الإعلام الفضائي وبين مايطلبه المصلحون التربويون وغيرهم؟!- هل من سبيل لإحياء (المسؤولية الاجتماعية) في ضمائر هؤلاء القائمين على تلك القنوات الخادشة للحياء في كافة أقطار الدنيا.. للتقليل من النظرة التجارية البحتة التي تضرب بالقيم والأعراف عرض الحائط، ولا تعترف بالعهود والمواثيق الإعلامية؟!
- هل نطالب - على المستوى المحلي - وزارتي الإعلام والتربية بإعادة النظر في سياستيهما (الإعلامية والتربوية) لتعبر اعن واقع كما هو دون مثالية حالمة أو متوهّمة؟! ونحن نعلم أن لدينا من القوانين والتشريعات والمواثيق ما تزدحم به الرفوف في كافة المجالات إلا أنها تصطدم بكثير من المنغّصات الواقعية التي لا يلتفت إليها عند قراءة واستشراف المستقبل!! - هل سيتحقق الحلم يوما ما بتطوير مناهجنا الدراسية - في التعليم العام والتعليم العالي - وإعادة تأهيل معلمينا ومعلماتنا للتعاطي مع العصر الحالي بواقعية وعلمية ومهنية تسبر أغوار هذا الواقع الذي ينبئ بمستقبل غامض وخطير؟! ما زال الحلم مستمرا!! فالمدرسة أو الجامعة التي لا مستقبل بعدها لا مبرر لوجودها!! - هل نلقي باللوم على الأسرة لأنها لم تقم بدورها المتوقع لحماية الأبناء من مخاطر المشاهدة غير المنضبطة.. بينما الأسرة نفسها ممثلة في (الوالدين) ضحية لهذا الواقع الذي لا تعرف كيف تتعامل معه لعدم وجود مؤسسات اجتماعية فاعلة تعنى بالتثقيف الأسري عن طريق برامج مدعومة تحدث التغيير المأمول؟!
- هل نطلب من مؤسسات الإنتاج الإعلامي أن تقدّم البديل وهي تصطدم بكثير من العوائق وفي مقدمتها: قلة الدعم الرسمي، وندرة الكفاءات المتخصصة، وعراقيل أيديولوجية معروفة؟! - هل نطالب بإنشاء قنوات أو حتى قناة تعليمية.. بينما نتائج التجارب السابقة عربيا لم تكن مشجعة - وإن بدا لها بعض الجوانب الإيجابية - بينما الحقيقة المرة تقول: إنها متواضعة قياساً إلى حجم الجهود المبذولة!!
هل نقف موقفا رافضاً منكفئاً ومنغلقا أمام الفضاء لأنه لا يحمل سوى السلبيات ونتائجها محكومة بالتبعية المطلقة؟ إن تشخيص الواقع يمثل 50% من الحل.. فإن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة صغيرة كما قيل! حلولاً تعيد شيئا من الترابط والمصداقية بين ما يقدم في المدرسة وما يقدم في الإعلام حتى لا تتسع هوة التناقض!! نريد الإسهام في إعادة شيء من التوازن العاطفي بين أفراد الأسرة المبرمجة تلفازيا!! ونأمل في حلول مشتركة تعيد إلى الأذهان أهمية المحافظة على الوقت المهدر الذي لا يقود إلا إلى مزيد من التراخي في أداء المسؤوليات والكسل الاجتماعي والإخطار المحيطة في كل المجالات: السياسية والوطنية والاقتصادية والعقائدية والصحية، ونطمح إلى خطوات مسئولة للتخفيف من الضغط على ميزانية الأسرة التي فعلت بها (الإعلانات التجارية) الأفاعيل!! ونأمل أن نجد وسيلة لمواجهة الخلل الذي أصاب كثيراً من القيم بعد أن ظهر ما أسميته (المتعة المثالية) التي تترسّخ في لا وعي المشاهد من خلال نماذج متوهمة من: الحب والجنس والعلاقات بين الرجل والمرأة - التي تبدو مسلية ومشتتة للوقت - إلا أن خطرها يفوق ما نشاهده اليوم عبر المحطات الإخبارية من مشاهد العنف والتفجيرات والسيارات المفخخة وقطع الرؤوس وعرض أشلاء الضحايا وصور الموتى في مختلف أشكالها ليلا نهاراً، فهي تثير الكبار وتؤرقهم فضلاً عن الأطفال..
وللأسف الشديد فإن تأثيرات ما يبث في وسائل الإعلام لا تظهر في حينها بشكل مباشر، بل تستقر في أعماق النفس، ومن ثم تظهر على هيئة سلوك ضمن مواقف يتعرض لها الفرد فيما بعد!
إن المجتمع الإسلامي بطبيعته هو مجتمع الدعوة المتجددة والدائمة إلى سبيل الله وإلى دين الله عز وجل. ولم يخل مجتمع إسلامي على مر العصور من الفقهاء والعلماء والدعاة ووسائل التعليم والإعلام بعلوم الإسلام وخلقه وآدابه. وقد كانت الدعوة بدعاتها ووسائلها - هي ركيزة التربية الإسلامية للأجيال المتعاقبة من النشء في كل مجتمع إسلامي حتى عهد قريب. كذلك فإن الدعوة لم تنفصل عن الإعلام في أي من المجتمعات الإسلامية على مر العصور، بل إن الدعوة كانت مصدر الإعلام وركيزته على الدوام، وأصدق الشواهد على ذلك أن المساجد في كل مجتمع إسلامي كانت تمثل مراكز العلم والإعلام والتعليم والتوعية والإرشاد، وقد ظل المسجد يؤدي هذه الرسالة الجليلة على مر القرون وحتى بعد ظهور وسائل الإعلام المتطورة في العصر الحديث، فإن دور المسجد مازال قائمًا في كل مجتمع إسلامي منارة للدعوة والعلم والإرشاد. وحين نعرض للحديث عن موقع الدعوة من الإعلام المعاصر وكيف يجب أن تكون علاقة الإعلام بالدعوة، نبدأ بالقول بأن طبيعة المجتمع الإسلامي تحتم قيام "إعلام إسلامي" على أسس صحيحة ومقومات صريحة. بمعنى أن وجود إعلام غير إسلامي، في المجتمع الإسلامي يمثل تناقضًا كبيرًا تنعكس آثاره السيئة على المجتمع، وخاصة في المجال التربوي والخلقي، ومن ثم على البناء الاجتماعي وهو الأمر الذي أثبتته التجارب في بعض المجتمعات المسلمة التي نقلت عن الإعلام الغربي وفتحت له أبوابها على مصارعيها خلال هذا القرن. وحين يقوم بنيان الإعلام الإسلامي في المجتمع المسلم على أسسه الصحيحة - فإن عملية الإعلام في مجموعها وجزئياتها لابد وأن تستلهم فكر الدعوة وتتآلف مع منهجها، بحيث يصبح العمل الإعلامي نسيجًا إسلاميًّا خالصًا - يسهم في إرساء القيم الإسلامية والخلق الإسلامي ويؤدي دوره في صياغة الفكر العام للمجتمع وفي تربية الأجيال تربية إيمانية صحيحة. وليس من شك في أن وسائل الإعلام وفنونه الحديثة - تستطيع أن تسهم إسهامًا عظيمًا في تطوير وسائل الدعوة وفي نشرها داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها.
× كاتب مصري خبير في القانون العام.
د. عادل عامر
العلاقة بين الإعلام والتعليم 1924