إن أخطاء المجلس العسكري في إدارة المرحلة الانتقالية لا تلغي دوره المبدئي والتاريخي في حماية الدولة والثورة، وحفاظه على انضباطه العسكري وتماسكه المهني، خاصة إذا قارنَّاه بجيوش عربية كثيرة رسبت في اختبار الثورات العربية من ليبيا إلى سوريا إلى اليمن، في حين نجح هو وبامتياز في اختبار المهنية والانضباط العسكري وأنقذ مصر من أخطار كبرى - البعض برعونة لا يقدر حجمها - كان يمكن أن تواجهها في حال تخلخل جيشها أو تعرض لأي أخطار.
إن أخطاء العسكري وحكومتيه (شرف والجنزوري) قد شملت الجانب الاقتصادي، حيث ارتكبت عدداً من الكوارث الاقتصادية، التي ساهمت في تعميق الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد المصري عقب سقوط نظام الرئيس السابق.
ومع حصول قرار الشركة المصرية المصدرة للغاز لإسرائيل، إلغاء العقد، على تأييد أغلب المصريين، إلا أن الحيادية تستدعي توضيح الأخطاء الاقتصادية الفادحة التي قام بها المجلس العسكري عن طريق حكومتيه المتعاقبتين.
فبعيداً عن الأزمات التي لا دخل للمجلس العسكري وحكومتيه بها، مثل هروب الاستثمارات الأجنبية وانخفاض السياحة - رغم مسئوليتهم الضمنية بسبب غياب الأمن والتضمينات التي لم تقدم للمستثمرين الأجانب - إلا أن هناك عدداً من الأفعال والقرارات التي أثرت بالسلب على الوضع الاقتصادي.
القروض والديون كانت الكارثة الاقتصادية الأولى للمجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية، هي الاتجاه الواضح نحو الاقتراض سواء الداخلي أو الخارجي، بعد أن بدأ فترة حكمه بالرفض التام للقروض الخارجية.
فبعد أن رفض المجلس العسكري الموافقة على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي في أغسطس الماضي، عاد ووافق عقب تولي الدكتور/ كمال الجنزوري رئاسة الوزراء، على الدخول في مفاوضات مع الصندوق للحصول على 3,2 مليار دولار كقرض بفائدة 1,2%..
كما توسعت وزارة المالية خلال العام الماضي في إصدار أذون خزانة (سندات قصيرة الأجل)، لتصبح بشكل شبه يومي، بشكل زاد من الديون الداخلية لتقترب من تجاوز 100% من الناتج القومي الإجمالي.
والواقع أن الديون الخارجية المصرية وصلت إلى 36 مليار جنيه، بينما تجاوز الدين الداخلي التريليون جنيه للمرة الأولى في تاريخ مصر، حيث بلغ 1,13 تريليون جنيه، مع وجود مؤشرات بان الديون المصرية تزيد بمعدل 13% سنوياً.
ورغم أن اللجوء إلى القروض والاستدانة سواء داخلياً أو خارجياً هو أمر مبرر لدى الكثيرين، بسبب العجز الواضح في الإيرادات والانهيار الملحوظ في الاحتياطي النقدي، إلا أن الأزمة تتمثل في تأثير الديون المستقبلية على الاقتصاد المصري.
فالاستدانة الخارجية، رغم انخفاض نسبة الفائدة عليها ( ما بين 1: 3%)، إلا أنها تمثل خطراً يتعلق بفرض برامج اقتصادية بعينها على مصر، ناهيك عن أن الفشل في تسديد الفوائد أو القرض يعرض مصر لتخفيض تصنيفها الائتماني وبالتالي إلى مزيد من الضغوط على العملة المحلية والاستثمارات الوافدة.
أما القروض الداخلية، فخطرها يتمثل في الفوائد المرتفعة للغاية (تصل إلى 17% في بعض الحالات)، إضافة إلى أنها تسحب السيولة من البنوك التي من المفترض أن تتوجه إلى مشروعات استثمارية أو تنموية.
البديل..
قد تكون القروض أسهل الحلول على المدى القصير لعلاج أزمات الاقتصاد المصري، إلا أنها على المدى الطويل - وحتى القصير بعد أن تجاوز الدين الداخلي التريليون جنيه - قد تدفع البلاد إلى خطر الإفلاس التام، وهو ما يفتح الباب لضرورة تخفيض الإنفاق العام بشكل تقشفي صارم ومحاولة إيجاد مصادر تمويلية أخري وإنعاش المصادر المعروفة ( سياحة - قناة السويس - بترول - صادرات - تحويلات مصريين بالخارج).
سيولة البنوكتمثلت الأزمة الاقتصادية الثانية، في أثر الاتجاه الحكومي - الذي من المؤكد أنه بناءً على موافقة من المجلس العسكري الحاكم للبلاد - للاقتراض الداخلي من خلال إصدار أذون خزانة بشكل شبه يومي، وبنحو يسحب السيولة من البنوك العاملة بالسوق.
فقد أوضحت عدة تقارير شهرية للمركزي المصري، أن نسبة السيولة للودائع بلغت نحو 50%، وهو ما يمثل أزمة حقيقية عكس ما قد يروجه البعض بأن هذه النسبة تعد جيدة من المعايير المصرفية.
وتوضح نسبة السيولة بالبنوك للودائع التي تلقتها، أنه بعد استبعاد الاحتياطي الذي يلزم القانون بتجنيبه، واستبعاد الحصة التي يجب وضعها لدى البنك المركزي الضامن للودائع، أن معظم سيولة البنوك توجه إلى سد عجز الحكومة عن طريق شراء أذون الخزانة والسندات.
وتؤثر جفاف السيولة المصرفية، على الدخول في مشروعات استثمارية، أو المساهمة في التنمية في المجتمع، مع توضيح مصادر مصرفية أن البنوك أصبحت تتحفظ بشكل كبير عن تقديم قروض وتسهيلات بنكية، عدا قطاع التجزئة المصرفية.
التضخم وطبع متزايد للعملة شهدت الفترة التي تلت تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، طبع البنك المركزي لأوراق نقدية بشكل غير مسبوق، ما رفع من درجة التضخم في مصر، وخفض من قيمة الجنيه وبالتالي مدخرات المصريين.
فمفهوم التضخم في علم الاقتصاد يعني الارتفاع في متوسط الأسعار السائدة بالسوق، أو بعبارة أخرى ( أموال كثيرة تطارد سلع وخدمات أقل)، فزيادة أوراق النقد، مع عدم وجود تغطية تماثلها من السلع والخدمات والنمو الاقتصادي بالمجتمع، يرفع من المستوي العام للأسعار بشكل كبير، ويخفض من قيمة العملة.
فطبقاً لدراسة حديثة للخبير المصرفي أحمد آدم ، ‘’فإن المركزي كان يطبع خلال عامي 2003 - 2004، نحو 59,7 مليار جنيه، ليقوم بزيادة طباعة الأوراق النقدية بعد ثورة 25 يناير، ففي شهر فبراير فقط تم طبع 22 مليار جنيه ويستمر النقد المصدر والمطبوع في الزيادة وبشكل كثيف حتى بلغ في نهاية ديسمبر الماضي 190,1 مليار جنيه، بينما بلغ في يناير 2011 نحو 156.2 مليار جنيه (26 مليار دولار) أي أن طباعة البنك المركزي لأوراق نقد ومن دون غطاء قد زادت معها النقدية المصدرة والمتداولة خلال عام 2011 (عام الثورة) وبمقدار 34 مليار جنيه <>.
أدى إلى زيادة كبيرة في أسعار السلع شكلت ضغطا على كافة المواطنين بصفة عامة وعلى المواطن البسيط بصفة خاصة، فزيادة طباعة النقود أدت إلى ضياع الاستفادة من الفوائض المالية التي كانت موجودة بالبنوك المصرية وحتى نهاية عام 2008 في تمويل عجز الموازنة، وبالتالي فأي طلب على تمويل يقابل بطبع نقدية من قبل البنك المركزي.
إن الكوارث الكبرى التي اشتعلت حدثت من مستصغر الشرر, والتي كان من الممكن للمجلس العسكري بسلطاته الواسعة أن يحاصرها قبل أن تنطلق بلهيبها إلى أماكن أخري, مثل الصراع الذي دار حول كنيسة ماريناب بأسوان والذي أدى لكارثة أحداث ماسبيرو, وكارثة التعدي على أهالي الشهداء والمصابين وهدم خيامهم بالتحرير والتي قادت لأحداث شارع محمد محمود, واحتجاجات معتصمي مجلس الوزراء التي قادت لأحداث مجلس الوزراء, حتى أحداث أستاد بور سعيد كانت لها مقدمات تمهيدية من تصاعد روح التعصب والاحتقان بين جمهور الفريقين, فكان من الممكن وبمنتهى البساطة أن يتم وضع دبابتين أمام أستاد بورسعيد وعدة مئات من جنود القوات المسلحة داخل الأستاد لنقول ونحن في غاية الطمأنينة إن هذه المباراة ستنتهي على خير, ولن يجرؤ أقوى المجرمين والمتآمرين على العبث بأرواح جمهور التراس الأهلي, ولن يجرؤ أحد أن يغلق البوابات ويطفأ الأنوار ويلقي بالشباب من أعلى المدرجات وكأننا في فيلم خيالي مرعب.
وهذه هي الأخطاء السياسية
1- إسناد أمور الدولة بعد تنحي مبارك إلى المجلس العسكري، فقد كان هذا الإجراء خطأً سياسيًّا فادحًا وقع فيها السياسيون المصريون، ولا أدري كيف وافقوا - منذ البداية - على أن يدير المجلس العسكري المرحلة الانتقالية؟ هل كنا مغيبين وفاقدي الوعي إلى هذا الحد؟ أو كنا مفتقرين إلى النظرة السياسية الصائبة؟ أو كنا ننظر تحت أقدامنا ولا ننظر إلى المدى السياسي البعيد؟ إنه لا فرق بين نظام مبارك والمجلس العسكري، فكلاهما منهج واحد وفكر واحد وطريقة واحدة في إدارة تلك البلاد المنكوبة التي يبدو أنها لا حظ لها في الحرية والاستقرار، وأنه كُتب عليها أن ترزح تحت سياط العسكر إلى يوم الدين؛ إما لغبائنا السياسي وعدم فطنتنا لمجريات الأمور، وإما لذكاء المجلس العسكري في وضع خطط محكمة لخداع الشعب والمكر به والتمويه عليه، ويبدو أن هذه الخطط قد انطلت على كثير من المصريين، فرضوا بالأمر الواقع واستكانوا للأوضاع الراهنة، وهذا كله نتيجة طبيعية لسياسة النفس الطويل التي ينتهجها المجلس العسكري مع المصريين منذ توليه إدارة البلاد، ويبدو أن هذه السياسة قد بدأت تؤتي أكلها على الوجه الذي يشتهيه أعضاء المجلس العسكري.
2- التلكؤ في إصدار قانون العزل السياسي أو قانون إفساد الحياة السياسية لفلول النظام السابق وإهمال هذا الملف المهم، لقد كان الهدف من هذا القانون منعَ كل مَن شارك في إفساد الحياة السياسية سابقًا من المشاركة في العملية السياسية لمدة زمنية محددة تتيح لهؤلاء أن يتطهروا من أعمالهم الشائنة السابقة، وأن يوطنوا أنفسهم على التعامل بنظافة وشرف مع المرحلة الجديدة التي تمر بها البلاد، إن هذا القانون له أهمية كبيرة، حيث يفتح أمام هؤلاء باب التوبة السياسية لينخرطوا في المجتمع من جديد بفكر جديد وسياسة جديدة أساسها الشفافية والصدق والحرص على مصلحة الوطن.
لقد تم خداع الثوار وخداع الشعب المصري بأكمله وإغراقه في معارك جانبية ومسائل هامشية بهدف التغطية على هذا القانون ونسيانه تمامًا، وها نحن الآن نجني مرارة هذا التقصير وذاك الإهمال، فقد قفز إلى السفينة الوطنية عدد ممن قامت الثورة – أساسًا – ضد سياساتهم العقيمة، مستغلين عدم وجود تشريع قانوني يمنعهم من الترشح لهذا المنصب ومتحدِّين كل مشاعر المصريين الشرفاء ومستقوين بالمجلس العسكري الذي يسخِّر لهم كل إمكانيات الدولة الأمنية والعسكرية ليحققوا مآربهم في الوصول إلى سدة الحكم وإن رغمت أنوف المصريين جميعًا.
لقد نسينا أن شعار الثورة كان: ((الشعب يريد إسقاط النظام))، وقد أسقطنا رأس النظام، ونسينا أن نتأكد من موت النظام نفسه، فالثورة لم تكن بالتأكيد ضد شخص مبارك، وإنما كانت ضد نظام مبارك بجميع أركانه، كانت ضد كل الشخصيات التي تصدرت المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي والتعليمي في العهد البائد، وتسببوا بسياساتهم العقيمة في تأخر البلاد وتراجعها.
3- عدم وجود مجلس رئاسي مدني لإدارة المرحلة الانتقالية، تتبعه حكومة وحدة وطنية أو حكومة مدنية لإدارة هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، وتكون مهمة المجلس العسكري حماية مؤسسات الدولة والمحافظة عليها فقط، فالمجلس العسكري لا يُحسن العمل بالسياسة، وهذه ليست مهمته، وليست لدية الخبرة السياسية التي تؤهله لإدارة هذا الشأن المهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يخضع لكثير من الضغوط والأفكار من هنا وهناك، ويميل إلى هذا تارة وإلى هذا تارة أخرى، ويظل دائمًا في حالة تردد، وهذا يفسر لنا سر منهج المماطلة والتسويف الذي يتبعه المجلس العسكري منذ اللحظة الأولى لتوليه إدارة شئون البلاد، فليس لديه منهج واضح ومحدد لهذه المرحلة، ويفتقد لرؤية إستراتيجية جامعة للخروج من الأزمة، ومعظم قراراته بالونات اختبار إما أن تستمر أو لا تستمر، وأحيانًا تغلب عليه الطبيعة الديكتاتورية التي تربى عليها مع النظام السابق، أو التي تفرضها عليه الطبيعة العسكرية لرجال الجيش، فلا يسمع لهذا أو ذاك، ويصدر ما شاء من القرارات بليل متبعًا سياسة: ((اللي مش عاجبه يخبط دماغه في الحيطة))، فهل مصر – في هذه المرحلة الحرجة – تحتمل مثل هذا التهريج السياسي؟ سؤال يجب علينا جميعًا أن نجيب عليه بكل صدق وأمانة إذا كنا نريد الخير والاستقرار لمصرنا الحبيبة.
4- الإهمال المتعمَّد لتطهير مؤسسات الدولة، خاصة مؤسسة الإعلام ومؤسسة الداخلية، أما عن الإعلام فحدِّث ولا حرج، فما زالت الأبواق التي تنفخ في الفتنة والوجوه التي سئمنا من نفاقها وتملقها هي التي تتصدر المشهد الإعلامي دون أن نشهد أو نشعر بأدنى تغيير في هذه المؤسسة المهمة، فكان من الأولويات التي لا تقبل التأجيل أو التسويف في المرحلة السابقة تطهيرُ الإعلام كخطوة أولى ومهمة؛ لأنه بدون تطهير الإعلام فإن أي شيء سوف نقوم به في الاتجاه الصحيح ليس له معنى ولا فائدة منه؛ لأن الإعلام الموجَّه المغرض سوف يفسده، ولذلك لابد من القيام بثورة تطهير شاملة للإعلام ليتحول من إعلام يخدم جهة معينة ووجهة نظر واحدة إلى العمل في خدمة الشعب المصري فقط، وأن يطرح جميع وجهات النظر المختلفة، وأن يتبنى مبدأ: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”.
وقل مثل ذلك عن تطهير وزارة الداخلية، فقد سمعنا كلامًا كثيرًا حول هذه الخطوة المهمة دون أن نرى أثرًا ملموسًا لهذا الكلام على أرض الواقع، وكأن هناك داخل هذه الوزارة قوةً خفيةً لا تريد هذا التطهير ولا تريد أن يحدث التغيير، والعجيب أننا استسلمنا لهذا الواقع وانشغلنا بأمور أخرى أقل أهمية من هذه الخطوة الحاسمة.
5- السكوت على المحاكمة الهزلية لمبارك ورموز نظامه الفاسد، إن هذه المحاكمات تمثل إهانة كبيرة للثورة والثوار، ومسرحية هزلية الغرض منها تخدير الشعب وإسكاته، أو قل: استغفاله والضحك عليه، فحتى الآن لم يصدر حكمًا واحدًا يروي غله هذا الشعب ويُذهب غيظ قلبه ويشفي صدور الموجوعين من أبنائه، وأعتقد أنه لن يصدر مثل هذا الحكم لسببين، أولاً: لأننا تخلينا عن هذه القضية المهمة وتركناها جانبًا وانشغلنا أو شُغلنا عنها عمدًا بسفاسف الأمور، ثانيًا: أنه هكذا وُضعت الخطة للضحك على شعب مصر الطيب، وها هي الأيام تثبت أننا كنا نعيش في خدعة كبيرة، فصارت صدمتنا أكبر وصار جرحنا أعمق.
6- اختلاف الإسلاميين وتفرقهم، فقد استطاعت الأغلبية الإسلامية أن تحقق إنجازات كبيرة، وصار لها صوت مسموع وقوة لا يُستهان بها ويعمل لها الجميع ألف حساب، لكن سريعًا ما دبَّ الخلاف والشقاق بينهم، ووقعوا ضحية السعاية المغرضة للوقيعة بينهم، وظهر المرض العضال بين أبناء الحركة الإسلامية ألا وهو التعصب للأشخاص على حساب المشروع الإسلامي الذي يتبنونه، ولم يكونوا عند مستوى الحدث المهم الذي تمر به البلاد، وإن لم ينتبهوا إلى مثل هذه الأخطاء ويسعون إلى تصحيح مسارهم وتوحيد كلمتهم فسيفقدون كثيرًا مما حققوه، وسيفقدون – وهذا هو الأهم – ثقة المصريين في مشروعهم.
د. عادل عامر
أخطاء المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية 2074