أعيان عدن وأمراء لحج وحضرموت كانوا أكثر ذكاءً ودراية بواقع الشمال من علي سالم البيض ورفاقه في قيادة الحزب والدولة الجنوبية، الكاتب والمفكر القدير قادري أحمد حيدر في موضوع له نشرته (الوسط ) كان قد عاد بناء إلى عشرينيات القرن الماضي وتحديداً إلى السنة التي قدم فيها الرحالة والسياسي عبد العزيز الثعالبي من بلده تونس إلى اليمن عام 1924م.
بعد قراءتي الموضوع أحسست وكأن الزمن توقف عند تلكم المخاوف والهواجس واللحظات التي دونها الرحالة الثعالبي في كتابه (الرحلة اليمنية)! إننا وبعيد قرن إلا قليل نجد أنفسنا نعيش ذات المشكلة التي راودت سلاطين وأعيان وأمراء الجنوب، أنها نفس المعضلة التاريخية التي لم تكن بحسبان قادة النظام والدولة الجنوبية حين ذهبوا للتوحد عام 90م دونما تقدير لماهية الدولة والنظام في الشمال واللذين لا يختلفان كثيراً عن نسق وجوهر مملكة الإمام ونظامه وتفكيره الفردي العصبوي المركزي.
أقرأ وثيقة أعيان عدن وسلاطين لحج وحضرموت ؛ فأسأل : ماذا تبدل ؟ لا شيء، لقد اشترط هؤلاء لتوحيد اليمن مع الحضرة الإمامية وجود نظام سياسي يوازي ما هو كائن في الجنوب، ففي بعض من مضامين تلكم الوثيقة كان الدكتور/ محمد عبد المجيد قباطي قد أورد نصوصاً منها في ورقة بحثية قدمها مؤخراً، إذ جاء فيها التالي :
أما مملكة اليمن في عهد حكومتها الإمامية فأنها ليست من النوع الذي تنبرم معها العهود، فكل اتفاق أو التزام نبرمه مع الحضرة الإمامية، والحكومة على ما هي عليه في شكلها المطلق المستند الى إرادة المتولي لأمرها لا إلى نظام أساسي يرجع إليه ولا إلى رغبة الشعب يكون بمثابة الرقم على الماء).
وأيضا ( قبل أن ننظر في تقدير وتقرير علائقنا وحقوقنا ومقدرات مستقبل اليمن ووحدته القومية مع الحضرة الإمامية يجب علينا أن نقرر القواعد الأساسية لتأليف حكومة شعبية لليمن تكون مقرراتها والتزاماتها مكفولة بإرادة الشعب).
أتدرون ماهية رد الإمام على دعوة أعيان وسلاطين لحج وحضرموت حول توحيد اليمن ؟ الرفض إذ جل ما اشترطه الإمام من ساسة عدن ولحج وحضرموت هو دفع الجباية مقابل منحه لهم حُكم سلطناتهم، بحيث يشكلون حكوماتهم بمعزل عن حُكم الإمام وسلطانه المطلق.
وإذا كان واقع الحال هكذا في زمن الإمام يحيى ؛ فماذا تبدل في عهد الثورة والجمهورية ؟ لقد وقعت قيادة الجنوب في خطأ كبير وفادح حين اعتقدت أنها توحدت مع دولة ونظام وحكومة تحترم تعهداتها واتفاقياتها والتزاماتها المبرمة مع الحضرة الصالحية التي لا تختلف كثيراً عن الحضرة الإمامية.
فكل ما وقع عليه من اتفاقيات وتعهدات قبيل التوحد صارت أشبه بالكتابة على الماء، فالرئيس صاحب سلطان مطلق لا يستند لنظام أو دستور حقيقي يمكن الرجوع إليه أو إلى رغبة الشعب، ما كان يخشاه أولئك الحكام من ضياع للحقوق والمكتسبات في جناب المتوكل على الله (الإمام) تحقق في زمن صاحب الفخامة (الرئيس).
كلاهما الإمام والرئيس وجهان لعملة واحدة من ناحية سلطانهما المطلق أو من جهة رغبتهما بتوريث الكرسي لنجليهما (الأحمدين) ناهيك عن عقليتهما وفعلهما المتضادين مع فكرة الدولة الحديثة الجامعة في كنفها لكل مواطنيها والمسئولة عن حمايتهم ومعيشتهم واستقرارهم وكرامتهم وحرياتهم وحقوقهم.
الفارق ربما هو أن الإمام كان شجاعاً وصادقاً حين رفض التوحد وفق اشتراطات حكام الجنوب ؛ بل وأكثر من ذلك عندما لم يخف طمعه بكونه لا يرى في التوحد سوى الجباية وريعها على خزينته، عدا دفع المال فليبقى الجنوب تحت أمرة حكامه، أما الرئيس فلم يكن إلا مخادعاً وكذاباً، إذ سرعان ما انقلب على تعهداته والتزاماته وقبل حتى أن يجف مداد توقيعه.
السؤال الماثل اليوم : هل من طريقة ناجعة يمكننا بها إعادة الاعتبار لمفهوم التوحد كصيغة غايتها الأصل مصلحة الإنسان ؟ قيل بأن استشارة القلب يوماً واستشارة العقل دهراً، شخصياً أضم صوتي لصوت العقل والمنطق والفائدة لا إلى صوت العاطفة والانفعال والخسارة.
لا أدري كم لدينا من أمثال الرجل الحكيم والمجرب أنيس حسن يحيى ؟ في زمن تطفوه مشاعر الغضب والكره الشديد للحكمة والعقلانية يصير الكلام عن القادم مجرد تكرار تواريخ الأمس التي نحاول الهروب منها بالارتماء في إعادة أخطاءها الفادحة، فكيف لا ينتابني الفزع حين يتكلم سياسي مخضرم بوزن المناضل أنيس ؛ عن جنوبات لا جنوب واحد ؟؟.
محمد علي محسن
سلاطين الجنوب والحضرة الإمامية 2774