أضع يدي على قلبي وأنا أتابع الانتخابات الفرنسية ونتائجها الأولية المذهلة التي تُبين إلى أي مدى ممكن أن تصل إليه أفق التغيرات الفكرية التي تسير إليها فرنسا والتي ستؤثر بدورها على مجريات الأحداث في العالم، بل لا أبالغ إن قلت أن النتائج النهائية لهذه الانتخابات ستغير اتجاهات الأحداث والأفكار على كُل المستويات وأن المدلول الفعلي لطبيعة وحجم التغيرات هو عدد ونوعية الناخبين الفرنسيين الذين صوتوا لليمين المتطرف(الجبهة الوطنية) وفي تصوري أن ما حاز عليه هذا الحزب من أصوات إلى تاريخ كتابة هذا المقال كافياً لإدراك أن جيلنا سيشهد تغيراً تاريخياً حتمياً على المستوى الحضاري، فبرنامج هذا الحزب الفكري برُمته لا تخرج أبجدياته وأديباته عن مفاهيم التطرف بنمط ومنهج حضاري، فهو يدعو للحد من الهجرة واستعداء العرب والمسلمين الفرنسيين، فهم غير مُرحب بهم ولا مرغوب فيهم في وطنهم فرنسا ولا في أوروبا كلها وبهذا البرنامج الشاذ المتطرف حصدت زعيمة هذا الحزب (لوبن) أصوات الناخبين الفرنسيين وحجزت مكانها في المرتبة الثالثة على هرم الرئاسة وهي تردد شعارها الشهير(هل يعلم المواطن الفرنسي أن كل اللحم الذي يأكله حلال ؟) وبات هذا الحزب ينافس وبجدية بقية الأحزاب الفرنسية على رئاسة جمهورية فرنسا.
إن تصويت الفرنسيين لهذا الحزب المتطرف وبرنامجه الانتخابي يسوقنا بالضرورة إلى القول أن مفاهيم الثورة الفرنسية التي قامت عليها الحضارة الغربية أصبحت اليوم قاب قوسين أو أدنى من تفريغها من محتواها الأخلاقي وأن الحرية والعدالة والمساواة أضحت كلها مبادئ من الماضي وإن شئت فقل جزءاً من التاريخ فحسب ولم يعد لها حضور في الواقع الاجتماعي والسياسي الفرنسي وبالضرورة الواقع الأوروبي، هذه المبادئ التي يدفنها اليوم اليمين المتطرف وزعيمته (لوبن) والمصوتون له هي التي أخرجت الغرب من ظلام القرون الوسطى إلى نور العصر الحديث وبموجبها استحقت أن ترث الحضارة الإسلامية وقيمها وأن تكمل مسيرة الارتقاء بحياة الإنسان غير أن التطرف، الفكري الذي بدأ يغشى الغرب اليوم بتسارع زمني مريب يكاد يُنهي مسيرة هذه الحضارة ودعوني أدلّل على ما ذهبت إليه بالتوجّه مباشرةً إلى التاريخ القريب وبإيجاز ولن أذهب بعيداً، فلقد سقطت الحضارة الإسلامية التي كان يقودها الأميّون لمجموعة من العوامل من أبرزها الانحراف الفكري في المفاهيم المتعلقة بحقوق الإنسان وتجسَّد هذا الانحراف بعموميته في تقديس الذات العربية ونبذ بقية الأعراق الإنسانية حتى انتهت دورتها الحضارية وخرجت من التاريخ وعلى نفس السياق كانت نهاية الحضارة الإسلامية العباسية التي قدَّست في ذاتها العصبية الفارسية وأشعَرت بقية الأعراق بالدونية أمامها وبذلك جسَّدت ماهية الانحراف الفكري كعامل بارز في انهيارها وخرجت من التاريخ بدورها ولم تتعظ الحضارة العثمانية من سابقتيها فسارت على نفس النهج وانحرفت فكرياً حتى وصلت إلى قمة الانحراف بتقديس الذات التركية أمام بقية الأعراق، فكان مصيرها الانهيار والخروج أيضاً من الدورة الحضارية واستبدلها التاريخ بالحضارة الغربية على أسس ومبادئ الثورة الفرنسية التي أكملت مسيرة الحضارة الإنسانية التي أسستها الحضارة الإسلامية، غير أن أوروبا لم تعتبر من التاريخ الحضاري واعتنقت الأفكار المتطرفة، فكانت النتيجة الحتمية حربين عالميتين كبَّدت الإنسانية عشرات الملايين من القتلى وتأخرت البشرية عن ركب التطور الكوني الإنساني بفعل هذه الحروب المجنونة الناتجة عن الانحراف الفكري الماثل في تقديس الذات وتسخير إمكانيات البشر المادية والمعنوية لصالح هذا التقديس المشين، فتفريغ الحضارات من القيم يؤدي لمثل هذه الكوارث وبرغم انتقال قيادة الحضارة الإنسانية للأمريكان بعد حروب أوروبا إلا أن هذه الحضارة استمرت في ارتكازها على مفاهيم وأخلاقيات الثورة الفرنسية وكنت ومازالتُ معتقداً جازماً أن الأمريكان ومن سبقوهم على مستوى الحضارات استحقوا هذا الإرث الحضاري الإنساني بالاقتدار والإرادة التي كانوا يمتلكونها كمؤهل موضوعي للاستمرار في الحفاظ على رصيد التجربة البشرية في الأرض وقيمها وتُراثها الإنساني والتي أعادت صياغتها الثورة الفرنسية وفي تصوري أن سدَنة القيم الحضارية العصرية - أعني الفرنسيين - انقلبو بالقواعد المتطرفة لزعيمة التطرف (لوبن) على الثورة التي أنتجوها وتكاد تنتهي عند حدود هذا الانقلاب الحضارة الغربية كما انتهت سابقاتها من الحضارات، فالتصويت لهذا الحزب المتطرف دال حقيقي موضوعي لمدلول واحد هو بداية النهاية للقيم الفرنسية بتخليها عن أهداف الثورة والقيم الحضارية المستنسخة منها.
نعم أتابع بشغف وقلق ما يجري في فرنسا فالتصويت لهذا الحزب يعني بالضرورة أن الإنسان الفرنسي يُعاني من إشكالية التطرف كنتيجة من نتائج الانحراف الفكري ولم يعد لديه ما يؤهله للاستمرار في أتّون الحضارة، فالتطرف مهما كانت طبيعته واتجاهه فهو في غايته ما هو إلا الاتجاه نحو العنف لتجريد الإنسان من حريته الطبيعية ومن العدالة التي يستحقها ومن المساواة التي يسعى إليها كحق إنساني، القاعدة في اليمن ليست وحدها متطرفة وأنصار الشريعة في اليمن ليسوا وحدهم متطرفين، يتسق معهم ويتساوى بنفس القدر من التطرف المواطن الفرنسي الذي صوت للحزب اليميني المتطرف، بل إن المتطرف الفرنسي في تطرفه أشد خطراً وتهديداً لأمن البشرية من غيرة من المتطرفين، ذلك أن المتطرف في اليمن مثلاً أقصى ما يمكن أن يقوده تطرفه هو حمل بندقية آلية ليقتل أبناء بلده، استوردها من الشرق أو الغرب ولم ينتجها بينما المتطرف الفرنسي يقتل قيم حضارة بوسائل الحضارة التي أنتجها هو ويبدأ فاعلاً بتمزيق النسيج الاجتماعي الذي يحيَا فيه بسعيه لإقصاء وحرمان إخوانه في المواطنة من المسلمين الفرنسين من حقوقهم الاجتماعية كمواطنين شاركوا في تأسيس هذا البلد والدفاع عنه في كل مراحل وجوده التاريخي الحديث وعلى نفس السياق يسعى هذا الحزب لأسباب عنصرية وطائفية للحد من حق الإنسان مُطلق الإنسان، فالاستعانة الضرورية بأخيه الإنسان في أوقات شدته ومحنته ويطالب هذا الحزب بالكف عن ذلك بالحد من الهجرة ويبُث ثقافة الحقد والكراهية التي تمقتها كل الأديان السماوية والتشريعات الوضعية، مُجسِّداً ذلك بإحراق المساجد أحياناً وتدنيس المقابر أحياناً أخرى!.
كل هذا الامتهان والشذوذ الاجتماعي لهذا الحزب ضد الإنسان سببهُ انحرافاته الفكرية المستقاة من غير قيم الثورة الفرنسية، فأيُّ التطرفان أخطر! تطرف مصحوب بمادة وفلسفة حضارة أم تطرف بدائي على رؤوس الجبال مصحوب بجهالة ؟.. هذا من جانب ومن جانب آخر إذا كان متطرفو اليمن لم تؤهلهم ظروفهم الإنسانية والثقافية بسلبية الحضارة الغربية نفسها للارتقاء بأفكارهم وبحياتهم عن ما هم فيه من انحطاط اجتماعي، فما هو عذر المتطرف الفرنسي الحضاري؟إذا كان المتطرف اليمني المُصنّع سياسياً لا يطيق الإنسان الغربي لأسباب تاريخية قد يكون لجهله عذر فيها فما هو عذر المتطرف الفرنسي في كراهيتهِ للعرب والمسلمين الفرنسيين؟ لم يعد يُخالجني أدنى شك أن أجندة وأفكار متطرفي صنعاء (وإن كانوا في أبين وجعار)في محصلتها النهائية تكاد تتماثل مع أجندة وأفكار متطرفي باريس في محصلتها النهائية أيضاً مع فارق جدير بالتدوين والملاحظة وهو أن التطرف الفرنسي يُدلّل أن أفكار ثورتهم لم تعد تقودهم وأنه قد تم إزاحتها عمداً عن مركز الحضارة وأن أفكار الثورة المزاحة تنتقم لنفسها بالتطرف اليميني من باريس التي خانتها تماماً كما تنتقم الأفكار المنحرفة من صنعاء التي زرعتها, أفكار اليمين المتطرف وزعيمته (لوبن) هي أفكار ما قبل السقوط الأخير وأفكار القاعدة وأنصار الشريعة هي أفكار ما بعد السقوط الأخير.
نعم أضع يدي على قلبي وأنا أتابع الانتخابات الفرنيسه، فأنا على يقين أن هذه الانتخابات مهما تكن نتائجها وبغض النظر لصالح من ستكون، فهي مؤشر على أننا ندُّق أبواب مرحلة تاريخية عنوانها ربيع على كل كُتل الجليد، ربيع بلا تطرف موضوعي في باريس ولا صناعة تطرف سياسي من صنعاء..
د/ عبدالله الحاضري
التطرُّف مابين باريس وصنعاء!! 2309