ذروة في التعقيدات، وما تمخضت عنه تقلبات الزمن، فلقد أصبحنا في هذا المكان الذي ولدت من رحمه عذابات وقهر لهذا الإنسان الذي كرمه الله، وبعد أن انحرفت بهذا الكائن -الخرافي جدلاً- صروف الزمن وتقلباته تطل من أفكاري حكمة "أوشو" من منطلق فلسفي لترتيب هذه الفلسفة وإسقاطها على واقع أثقل بني البشر، فأصبحنا بحاجة إلى فلسفة عميقة ومبسطة – تقريباً- لهذا الإنسان المعاصر المثقل بتفاهات التقاليد العتيقة، وهموم الحياة اليومية، لمساعدته على اكتشاف ذاته من خلال التأمل والتحرر من الفرضيات والأفكار المسبقة، وتطهير النفس من رواسب المفاهيم البالية.
إن نتأمل لنكتشف ونتحرر ونتطهر، متوالية تهفو لها النفوس التواقة للخروج من تيه معقد، وتقودنا برغبة جياشة في التحول من عالم المادة إلى عالم الروح والعكس بالعكس أيضاً، ولا تترك أياً من جوانب الحياة إلا وتتطرق إليه وذلك "بتطوير الوعي عند الإنسان والارتقاء بالروح الإنسانية إلى ما هو أبعد من المفاهيم الثقافية السائدة، إلى التعرف على الحياة من خلال الممارسة اليومية واختبار مدى أهمية الذات الإنسانية."
مما لاشك فيه أن زيادة الوعي تؤدي إلى الارتقاء بالروح ومن ثم تتفعل أدوارها وتتحول إلى ممارسات تعزز قيمة الإنسان - كفرد أو جماعات - بدوره المنوط بخدمة البشرية .
فلسفة تخاطب الإنسان في جوهر كيانه، بمفردات لغة بسيطة عميقة، صادقة ومفهومة، صالحة لازمان عدة، وتتمتع بقدرة عجيبة على إضاءة الأعماق المظلمة للنفس البشرية، حيث يعشش الخوف والقلق .
هنا تبرز احتياجات بني البشر إلى قيم مثلى خلاقة تنظم سير حياتهم بآلية صحيحة, فقبل كل شيء نحتاج للوصول لحقيقة لا تستقيم الحياة بدونها وهي: أن نُظهر وجهنا الحقيقي مهما كان الثمن، لأن الناس الذين يعيشون بأقنعة ويُظهرون عكس ما يضمرون، يصابون مع الزمن بانفصام داخلي، وتتدمر ثقتهم بأنفسهم بالتدريج, ولن يعرفوا معنى الهدوء والاستقرار الداخلي أبداً, فالصدق مع الذات أولاً ومع الآخر ثانياً، هو أساس بناء علاقات صحيحة في مجتمع سليم.
لكن كيف يمكننا أن نعرف ذاتنا الحقيقية؟!
إن عملية البحث عن الذات أشبه برحلة شاقة، كما يخبرنا "أوشو"، إذ يجب علينا إسقاط جميع الأفكار الموروثة عن أنفسنا، فالإنسان يجمع كل ما يقوله الناس عنه، ويجعله هويته، إننا ننسى صفاتنا الأصيلة ووجهنا الحقيقي، ويصير هدفنا الحصول على إعجاب الناس وتقديرهم ورضاهم، "وللأسف العالم الذي نعيش فيه ليس متحضّراً كما يدّعي، بل هو عالم بربري وبدائي يمجّد القوة التي غالباً ما تكون وحشية وظالمة ومنافقة".
باختصار نحن مدعون "للمجازفة"، جازف لتكون حقيقياً, فكل الوقت الذي عشناه باستخدام الشخصية الزائفة هو انتحار بطيء نمارسه على أنفسنا.
الإنسان الذكي يوصف بأنه الثائر، وبأنه الذي يمتلك القدرة على اكتشاف غير العادي في العادي, فجميع أنواع الإبداع هي حدسية، و معظم الاكتشافات العظيمة تحققت بواسطة الحدس وليس الفكر.
ماذا لو استمعت لـ"أوشو" وهو يعرف لك التأمل: بأنه القدرة على أن تكونَ سعيداً وأنتَ وحيد، سعيد بنفسك، كسعادة الطيور في تحليقها.
فلنبحث عن كل ما من شأنه أن يحفّزنا دوماً على اكتشاف آفاق جديدة للحياة، ويجعلنا نفهم العالم حولنا وكيف نتعامل معه، فنحن في الواقع لدينا نظريات عن الحياة، لكننا لا نعيش عمق الحياة الحقيقية، ورؤوسنا مليئة بأفكار نعتقد أنها الحقيقة المطلقة، لكننا لا نفهم أن الحقائق نسبية.
إن إنسان اليوم في حالة نفسية بائسة حقاً، معظم حواسه معطلة يعيش في حالة تجمّد، متشبث بعقائد جامدة تعيقه عن التواصل الحقيقي مع الناس، عقائد جامدة فارغة من الروح والحب، حتى حديث الناس مع بعضهم فارغ، إذ أننا نصغي لبعضنا بدافع التهذيب وليس إصغاءً حقيقياً، إصغاء عقل لعقل وقلب لقلب.
نحتاج إلى فلسفة تمكننا أن نترك أفكارنا البالية تتساقط كما يتساقط الورق اليابس عن أغصان الأشجار، تزيل الصدأ عن أفكارنا وأحاسيسنا، وتفتح مسامنا لنور الحقيقة, وتدلّنا على الأصالة الحقيقية الكامنة في نفوسنا، والتي ضيّعناها بسبب الضغوط الهائلة لهذا الزمن، وبسبب خوفنا من الحياة.
يبرز احتياجنا الفعلي لترميم قوانا المُخدّرة بالخوف والقلق، والمشلولة بالإحباط، ولفلسفة صادقة عميقة تعيننا حقاً في التصدي للزمن المشحون بكل أنواع المشكلات والاحباطات، وخلق الفرح والأمل، إذ لا معنى للحياة بدونهما..
فلسفة "أوشو" تدعو أفكار الإنسان إلى التجذر في الوجود وفتح النوافذ على الوجود، بأن يذهب الإنسان إلى الله لا نتيجة للخوف، وإنما من خلال الحب.
هنا تبقى مساحة وسط هذه السطور - درء للتشكيك في إسلامنا - نبين فيها ولاءنا لله ولسيدنا محمد عليه صلاة الله وسلامه وما تحويه هذه المقالة، فلسفة بشرية لا أكثر، غلب عليها الاجتهاد وقد تخطئ كثيراً وكفاها خيراً تفتيحها لأذهاننا على واقعنا المزري.
أحياناً نجد أنفسنا منغمسين في شيء ما، وفي لحظة التذكر، نخرج من ذواتنا، نعيد تركيب أنفسنا، فتزدحم الأفكار في رؤوسنا ,فتقول الفلسفة الأوشوية، انتقِ الأفضل منها، ستكون أمامك على شاشة الوجود ومن ثم تختفي، كن منتبهاً.. هناك فيها ما هو جيد وما هو عاطل، وإنْ كانت أو لم تكن طبيعية، فانظر إليها بعين العالم.. ذات يوم، فجأة، لن تراها ثانية، وفي هذا اليوم سيغمرك صمت لم تتعرف عليه من قبل، سيبقى إلى جانبك، سيكون معك كنفسك، إنها تحررك من عبودية الجسد.
والحياة، بمفهوم هذه الفلسفة، هدية من الله تعالى، كذلك الولادة والحب والموت هدايا، إذا عرفنا كيف نكون شاكرين لله، فكل شيء يتحول إلى هدية، الآخرون يفتقرون إلى الإحساس بالشكر، ومن الناس مَن يُدين الآخرين دائماً ويتذمرون ويطلبون المزيد والمزيد، بينما النوع الأول فقط، هو الذي يصبح ورعاً وشكوراً، على عكس الثاني الذي لا يستطيع ذلك، لأنهم اتّكاليّون ويظنون أن الله يجب عليه أن يلبي كل طلباتهم، ولذلك يكفرون أحياناً إذا لم تُلبّى طلباتهم, وهؤلاء يشعرون دائماً أنهم مكبوتون، وأن كل ما يحدث باطل ومخادع إذ لا شيء يلبي طلباتهم ورغباتهم، ولا شيء يملأ قلوبهم بالرضا, دائماً تحدث الأمور الحسنة بعيداً عنهم، إنهم يعيشون في بؤس وشقاء لأنهم يحملون دائماً الشكوى والحقد ونكران الجميل، كما لو أنهم مبعدون عن شيء ما.. كيف يستطيعون الشعور بالامتنان؟ وبغير الامتنان: "ليس هناك صلاة وبدون الصلاة ليس هناك دين" هكذا هؤلاء ومصيرهم الضلال.
في الحقيقة الصلاة ضرورية، الصلاة هي الصلة مع الكون, ليست مجرد أدعية وحركات مكررة، بل هي شكر لله على ما أعطانا من نِعم الحياة، إنه موقف يتضمن قول "نعم".. ولا يعرف الشك ولا الارتياب أو التشاؤم أو السلبية.
العالَم مليء بالجمال والروعة إلى درجة أنه لا يمكنك إلا أن تبادله الفرح والغناء، إنها ـ أي الصلاة ـ هدية لنا لنكون جديرين بها، فنحن لا نستطيع أن نرد الجميل إلى الله إلا بها، فكل ما نستطيعه هو أن نشكر الله، وبالشكر تدوم النعم، فاجعل الصلاة الحقيقية دربك إلى قلبك وربك، كن شكوراً بكل الطرق الممكنة، ولا تتذمر أبداً، أسقط العقل الساخط, المسألة فقط قضية قرار، وما إن تقرر أن تسقط التذمر، حتى تبدأ في إسقاط العادة القديمة، وينبغي ـ أيضاً ـ إسقاط حواجز الجسد، فنحن متماهون كثيراً بأجسادنا، نعتقد أننا أجساد، ونحن لسنا كذلك.
هذه هي الفكرة الزائفة الأولى التي ينبغي إسقاطها، هذه الفكرة الزائفة تولد أفكاراً زائفة أخرى، إذا كان الواحد منا محدداً بالجسد، فإنه سوف يكون خائفاً من الشيخوخة، المرض، الموت، هذا الخوف يخلق من هذا الالتصاق بالجسد.. أنت الذي يدرك هذا الجسد، وأنت لستَ الفكر أيضاً.
نحتاج لفلسفة تقنعننا بأن نبدأ أولاً بالعمل مع الجسد لأنه من السهل الابتداء مع كل ما هو محسوس، ثم تحول نحو الأرق والألطف، انظر إلى الفكر باعتباره منفصلاً عن ذاتك، حتى تصبح واعياً أنك لست الجسد ولا الفكر، ستشعر بالحرية وأنك بلا قيود أو حواجز، لن يكون هناك جدران، سيكون هناك فقط الفراغ المطلق في كل الاتجاهات، عندئذ ينبغي إسقاط الحاجز الأكثر شفافية، وهو المتعلق بالمشاعر.
أي أن علينا أولاً أن نتحرر من الجسد، ثم من الفكر، ثم من القلب، وحتى نكون متنورين علينا أن نتحرر من القلب أيضاً، عندما نعرف أننا لسنا الجسد ولسنا الفكر ولسنا القلب، سنعرف مباشرة مَن نحن، وما هو الوجود وما هي الحياة بكل معانيها، وسينكشف الستار مباشرة عن كل الأسرار.
جميعنا هنا غرباء، هذا العالم ليس بيتنا، بيتنا في مكان آخر، نحن في أرض غريبة، أن نبقى خارج ذواتنا هو أن نبقى بلا منزل، وبرجوعنا إلى المنزل، نعود إلى داخلنا، فلنكرس جهودنا كلها للعودة إلى الداخل.. لا شيء أكثر قيمة من هذا التوجه، لذا علينا المخاطرة والتضحية بكل شيء لأجله وما عداه كل شيء تافه بلا قيمة.
× المرجع : فلسفة أوشو في الحياة.
أحمد حمود الأثوري
رقصات المواجهة.. فلسفة الخلاص 2024