إن احترام حقوق الإنسان كمنظومة قيم عالمية جديدة هو المفتاح الحقيقي لحل مشاكلنا جميعاً ، وبوابة للدخول في السلم الاجتماعي الوطني والعالمي ، دون إهمال ما يجب علينا القيام به من إصلاحات بنيوية في الموروث الثقافي والديني لجعله أكثر انسجاماً مع العصر وقيم الحرية والسلم والأمن العالمي ، لكن مثل تلك الإصلاحات تتطلب مناخاً أقل احتقاناً وفرصاً حقيقية للتفاؤل بحياة كريمة، ولما كانت أنظمة الفساد والاستبداد ترفض تماماً أي فكرة إصلاح وعاجزة عملياً عن إجرائه ولا تستطيع أن تنتج إلا ذاتها، لذلك صار من الضروري اتخاذ إجراءات تنفيذية حاسمة من قبل المجتمع الدولي , تلزم هذه السلطات على إجراء انتخابات تعددية حرة , وبمعايير وإشراف دولي, كما يجب جلب مسئوليها أمام المحاكم الجنائية الدولية عن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان.. فمنظومة الأمم المتحدة التي قامت على مبادئ احترام حقوق الإنسان , وحق تقرير المصير, ومحاربة كل أشكال العبودية، والتي تتنطح اليوم للعب دور في السلام العالمي ومحاربة الإرهاب، يؤهلها دستورها لاتخاذ قرارات تفرض احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان, بالنظر لأن الديكتاتورية هي آخر شكل من أشكال العبودية وتنتهك حق تقرير المصير وحقوق الإنسان بشكل سافر , وتعلب دوراً محورياً في تهديد السلم العالمي و تنامي ظاهرة الإرهاب .
ومن جهتنا كمعارضين للديكتاتورية والإرهاب على السواء، علينا أن نسعى نحو إصلاح جذري في الطرق والبني والأدوات والأفكار التي تقوم عليها ومن أجلها التنظيمات المعارضة، باتجاه تطوير جدي وجذري في كل مناحي الحياة السياسية الاقتصادية والفكرية الثقافية والاجتماعية، وهذا يتطلب درجة من الحرية والحماية ومقدار من الدعم خاصة في البداية، لأننا نعمل على استنبات نسق مختلف وحديث في وسط قديم ومتخلف وبالي، وفي مواجهة سلطة شمولية تمتلك كل أدواة السيطرة المطلقة على المجتمع، وفي وسط اجتماعي يعاني من ضعف وأمراض خطيرة وحتى لا تقع البلاد تحت سيطرة الاتجاهات المتزمتة لا بد من خطة عمل واضحة ومتدرجة, وتعاون وإشراف دولي في كل مرحلة من مراحل التحول، وبتوفر الإرادة في السير نحو إصلاح حقيقي وجذري , وبوجود قدمين اثنتين واحدة في الداخل وواحدة في الخارج ، يمكن لمسيرة الديمقراطية والسلم أن تسير بسرعة نحو الهدف الواحد المنشود ، وهو السلام والأمن والحرية والرفاة للجميع.
لا نريد أن نسترسل أكثر من ذلك في نماذج الفساد والإفساد في المجتمعات البشرية, ونترك لذاكرة القارئ وفطنته وخبراته استكمال باقي النماذج على مهل، ولكن ربما يقول قائل: وما الغريب في هذا؟ أليست تلك طبيعة البشر؟ أليست هذه النماذج موجودة في المجتمعات البشرية على مر العصور؟ وهذا صحيح، لكن الغريب والجديد في هذه الحقبة هو سعة الانتشار والتغلغل الوبائي لهذه النماذج على كافة المستويات خاصة في مراكز القيادة على مستوى العالم المتقدم والمتأخر, وفى نفس الوقت قدرة وتوحش الآلة الإعلامية الجبارة في تقديم هذه النماذج ليل نهار للعالم على أنهم قادة السياسة والرأي والفكر والصناعة, وأن ما يتبنونه من قيم هي قيم التفوق والنجاح والتأثير، والنتيجة المتوقعة والحاصلة هي توحد كثير من الناس (حتى المتضررين من سلوك هذه النخبة) مع هذه القيم وتينيها, وهو ما نسميه التوحد مع المعتدى , حيث نجد الشعوب المظلومة والمنهوبة والمنتهكة في مرحلة من المراحل تفقد استنكارها لما يحدث لها وتبدأ في تبنى قيم من أهدر كرامتها وأضاع حقوها وسجن أبناءها فنجدهم مع كل هذا يحملون صوره ويعلقونها في كل مكان ويهتفون بحياته (والتي تعنى ضياع حياتهم) ويعطونه أصواتهم في الانتخابات, وهذه الحيلة الدفاعية النفسية (التوحد مع المعتدي) تحمى المعتدى عليهم ( بشكل وهمي غير ناضج ) من الشعور بأنهم ضحايا للمعتدي، حيث أصبحوا جميعاً في صف واحد ( كما يتخيلون )، وهذه العملية النفسية حين تحدث لأي شعب، فهي كارثة كبرى حيث يفتقدون الرؤية النقدية للتشوهات السلوكية في القيادة وفى المجتمع ومن هنا تصبح الإفاقة بعيدة المنال وتتوقف على قدرة قلة من نخبة المثقفين وأصحاب الرأي قد نجوا من حالة الاستلاب والتوحد مع المعتدى ( المستبد ) يقودون حركة إصلاح ربما تنجح أو تفشل حسب ظروف المجتمع الذي يعيشون فيه , وحسب قدرتهم على المثابرة ودفع ضريبة التغيير .
وحين يسود الفساد ويتغلغل , يصبح مألوفاً ويصبح هو القاعدة التي تحكم غالبية سلوكيات الناس , وفى هذا الوضع تقل أو تدفن أو تتوارى أو تضعف أو تستبعد كل القيادات الأخلاقية المتميزة , ويعيش أصحابها حالة من العزلة والانكماش والاستبعاد والاستضعاف والاغتراب فلا يراهم الناس ولا يسمعون لهم صوتاً, وهذه هي الحال التي وصل إليها قوم لوط حين قالوا عن المؤمنين الطاهرين منهم : " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " , فقد أصبح التطهر في هذا المجتمع الموبوء جريمة تستحق الإبعاد والمجتمعات التي على هذه الشاكلة تعرفها بوجود هيئة أو مؤسسة وظيفتها التحري حول ميول واتجاهات المرشحين للوظائف (بعيداً عن مؤهلاتهم العلمية أو مهاراتهم أو قدراتهم الوظيفية ) , وتصبح الوظائف القيادية مقصورة على من تنطبق عليهم مواصفات هذا المجتمع.
ومع مرور الوقت واستمرار عملية الانتقاء تفرغ المراكز القيادية العليا والمتوسطة من العناصر النظيفة أو الأخلاقية أو الفاعلة وتقتصر على المستسلمين والموافقين والمنبطحين والفاسدين , وهكذا تقوى منظومة الفساد وتتسع دوائره لكي تحمى بعضها بعضاً, وتكون النتيجة النهائية سيادة سمات اضطرابات الشخصية في عدد هائل من أفراد المجتمع خاصة الصفات السيكوباتية النفعية والانتهازية (الكذب, التحايل , الخداع , النفاق , السرقة , الابتزاز , التضليل , التزييف)، وقد يتساءل متسائل : ألا يدل انسحاب وتراجع أصحاب الأخلاق في مقابل أصحاب القوة والسيطرة على أحقية القوة في القيادة والتأثير , وعلى أن منطق القوة هو منطق الواقع , وأن منطق الأخلاق هو منطق الخيال والأحلام؟.
والحقيقة أن البشرية عاشت وأنتجت حضارات وحياتها خليط من القوة والقيم مع تفاعل وتوازن بينهما , إلى أن جاءت الحقبة الأمريكية الحالية فضربت القيم ضربة قاضية لصالح القوة , فانطلقت القوة منفردة في الساحة متجاهلة كل القواعد الأخلاقية والشرعية بل ومستهينة بها ومسفهة إياها بشكل علني غير مسبوق , وهذا يحقق مثلاً شعبياً مصرياً يقول: " القوي عايب" , وهو يعنى أن القوة تميل إلى التجرد من الأخلاق ومن الشرعية , وهذا ما حدث بالضبط في عصر الإمبراطورية الأمريكية حين انفردت مستبدة بحكم العالم ولا نعنى هنا القوة العسكرية الباطشة المستعمرة بلا وجه حق لأفغانستان والعراق والمتواطئة في احتلال فلسطين والجولان والمتنمرة لاحتلال سوريا وإيران , ولكن نعنى أيضاً القوة الاقتصادية التي تبحث عن الربح بأي شكل وتستنزف ثروات الضعفاء والمغفلين والمستغفلين , والقوة الإعلامية التي تخدع عين المشاهد وأذنه وتزيف وعيه وتوقظ دوافع العنف والعدوان والجنس لديه بصرف النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو مهنية .
ويمكن تفسير هذا الانشقاق والخصام بين القوة والقيم إلى طبيعة نشأة المجتمع الأميركي المبكرة حيث تكون من المنفيين والمستبعدين وخريجي السجون والغاضبين والسا خطين على مجتمعاتهم الأصلية في أوروبا (أي الذين يحملون جينات اضطرابات شخصية ) , هؤلاء ذهبوا إلى أمريكا وهم يحملون في نفوسهم كراهية للقيم والقوانين السائدة في المجتمع الأوروبي , تلك القيم التي عانوا تحت مظلتها واستبعدوا أو هربوا بسببها , لذلك لفظوها أو جنبوها وراحوا ينهلون من خيرات المجتمع الجديد , وحين واجهتهم مشكلة السكان الأصليين (الهنود الحمر ) حسموا أمرهم بعيداً عن أي اعتبارات أخلاقية حيث قاموا بقتلهم أو استبعادهم أو استعبادهم كي تخلو لهم هذه الجنة الجديدة , وكان هذا هو منطقهم واستمر إلى الآن رغم ما يغلفه من مظاهر ديمقراطية وادعاءات الحرية والعدالة ( راجع سلوكهم الوحشي وغير الأخلاقي في الحرب العالمية الثانية تجاه اليابان , وفى حربي الخليج وفى الإغارة على أفغانستان والعراق ).. والمشكلة أن طريقة وصول قيادات العالم للحكم سواء بالانتخابات في الدول المتقدمة أو بالانقلابات في الدول المتخلفة تعطي فرصة أكبر لمن استطاع أن يخادع أو يناور أو يشتري الذمم والأصوات أو يستولي على السلطة بالقوة والقهر أن يصل إلى سدة الحكم , في حين أن أصحاب الأخلاق غالباً ما يفشلون في الوصول عن طريق هذه الآليات، فهم لا يملكون القدرة على المناورات الانتخابية في الدول الديمقراطية , وربما لا يملكون المال , ولا يملكون ا لقدرة للوصول بالقوة العسكرية في الدول المتخلفة , وفى الحالتين نجدهم مستبعدين من النخبة الحاكمة إلا فيما ندر .
ونتيجة هذا الخلل هو في النهاية خلل في التركيبة النفسية للأفراد والشعوب حيث تتجه الأنماط والسمات الشخصية إلى الجانب الأيسر من المنحنى فيتبنى الناس الكثير من قيم الكذب والخداع والاستغلال والابتزاز والتحايل والتلون والتزوير والتلفيق والعنف والتسلط والقهر , يقابل هذا حالة من غياب القيم الدينية أو تغييبها أو تشويهها أو وصمها بالتطرف والإرهاب , والقيم الدينية هي منبع القيم المطلقة المرتبطة بالسماء وليس بأطماع الناس وشهواتهم , وهى مطلقة، بمعنى أنها لا تتغير حسب الظروف أو الأشخاص أو المصالح، فالصدق صدق في كل الأحوال والظروف والأمانة كذلك والرحمة والتسامح والإخاء والتكافل والحب ....الخ، وقد أضحى أصحاب القيم الدينية الأصيلة والمطلقة مشغولين – بفعل القادة العالميين – بالدفاع عن أنفسهم ضد محاولات الوصم والتشويه والاختراق , وبالتالي لم يعد لديهم نفس القدرة على التأثير والتوجيه والقيادة , هذه الأشياء التى انتقلت لمن ملكوا أسباب القوة.
إذن فهذا الواقع ينذر بأننا أمام حالة من التلوث الوبائي يصيب الشخصية البشرية على نطاق واسع, أو فيروس يخترق البرنامج الإنساني ويشوهه. وهذا التلوث أو هذا الفيروس عابر للثقافات والقارات والمجتمعات , وهذه خطورته , لذلك لا تفيد فيه المحاولات البسيطة أو المحلية للمواجهة , بل يحتاج لعقل الحكماء والعلماء الموضوعيين الموجودين على سطح الأرض ليقوموا بالتشخيص واقتراحات العلاج وآلياته ومتابعة تنفيذه بعد أن يخترقوا سحب الزيف والكذب والخداع والضلال لكي يصلوا إلى جوهر الحقيقة وينبهوا البشرية إلى الطريق الصحيح بعد أن ضلت أو كادت أن تضل الطريق، وقد كان هناك اتجاه في الجمعية العالمية للطب النفسي بأن تقترح آلية لاكتشاف الاضطرابات النفسية لدى القادة والرؤساء والملوك والزعماء واتخاذ ما يلزم لتجنيب المجتمعات البشرية مخاطر قرارات هؤلاء الناس الذين يملكون في أيديهم ترسانات هائلة من الأسلحة أو مليارات الدولارات أو الجنيهات أو الدينارات أو الفرنكات أو الريالات , ويمكن أن يهددوا بقراراتهم الملايين من أرواح البشر ,أو يهددوا راحة واستقرار ونمو شعوبهم.
ومن المعروف أن أي فرد في أي مجتمع يطلب رخصة لحمل سلاح لابد وأن يعرض أولاً على طبيب نفسي لتقرير مدى سلامته من الناحية النفسية , فكيف لا يتم هذا مع قادة وزعماء يملكون تحت أيديهم قدرات عسكرية ( نووية أو بيولوجية أو تقليدية ) واقتصادية هائلة.. وهناك مشكلات منهجية وتقنية تصعب من هذا الأمر , إذ كيف يتم تقييم الحالة النفسية أو الاضطرابات الشخصية لهذه الفئة من الناس؟, ومن له الحق في ذلك؟, وكيف نضمن حياده وعدالته؟, وإذا تم التقييم فمن يملك القدرة على المحاسبة؟, وكيف نضمن أن هذا الأمر لن يتم استغلاله بواسطة القوة الأمريكية المهيمنة ( أو أي قوة تهيمن بعد ذلك ) لمعاقبة من لا يسيرون في فلكها بحجة إصابتهم باضطرابات نفسية أو شخصية؟.
عموماً مازال هذا الأمر يستحق الكثير من التفكير الجاد والمنهجي لتجنيب البشرية مخاطر التشوهات النفسية والخلقية التي تصيب بعض قادتها وتؤدي إلى تشوه شعوبها وتلوث البيئة العالمية والمجتمع الإنساني .
× دكتور في الحقوق و خبير في القانون العام.
د. عادل عامر
السلم الاجتماعي الوطني والعالمي 2298