يحدث أن تجمعك الصدفة بأشخاص لا يغادرون الذاكرة كتلك الصدفة التي جمعتني بعائلة جوان شرام الأمريكي.. عائلة من أربعة أفراد (جوان وجانيل وطفلين جميلين ) لم أشعر بتاتاً في اللقاء الأول بالغرابة أو صعوبة الفهم فجانيل (زوجة جوان) تجيد اللغة العربية وقليلاً من اللهجة التعزّية والإبتسامة متشبثة بتفاصيل وجهها وحال لسانها (اليمن حلوة..تعز جميلة)...
هذه المرأة الأجنبية لا تُعير للحديث اهتماماً فيما يخص الديانات والأعراف والتقاليد، ترتدي البالطو والحجاب وتغمس كلامها باليمن قلباً وقالباً مما كلل جلساتنا بالغبطة والفرح المؤجج...
جوان شرام عقيل جانيل يعمل مدير المعهد السويدي وهو أمريكي الجنسية توّلى مهامه في عام 2022 وبطبيعة عمله عمل على تعليم طلابه في المعهد السويدي سابقاً اللغة الإنجليزية، هذا الرجل وصلني من الكثير حديثاً فاخراً بخصوصه، الجميع بالمعهد يُحبه وفي الحارة وحتى في تلك الزيارات لبعض المناطق الأثرية بتعز تجده محفوف بالناس مرتدياً اللبس اليمني (الثوب والعسيب) وكأنه ابن بلدنا..
جانيل هي الأخرى باتت تأكل أكلنا وتلبس بمجالسنا ما نلبس ولولا شقرة شعرها وزرقة عيناها لباتت يمنية...
في صباح الأحد وبحادثة تُعد الأولى من نوعها في تعز قُتل جوان شرام بيد الغدر التي اعترضته وهو اذهب لمقر عمله وإلى الآن لم يُعرف الجاني.
لم انتبه لصورته التي ضجت بها صفحات الفيسبوك ووصلني الخبر بقسوة من جانيل بنفسها فأقشعر بدني وشعرت بأن الفاجعة أكبر من كونها مقتل زوج صديقتي، وإلا ماذا نسمي مقتل أجنبي يُحبه الجميع لبساطته وإنسانيته المفرطة في عز النهار وأمام الجميع؟ أليست رسالة واضحة من أسياد القتلة لجلب المعاناة والمشاكل لهذه المدينة الحالمة؟!
أثناء تقديمي العزاء لجانيل شعرت بعقد لساني وشيئاً ما ألجمها فغرقت بالخجل ، لم استطع التفوه بحرف واحد سوا أن أعتذر لهذه النبيلة عن سوء أفعالهم فلم تزدني إلا نبلاً فرغم قساوة الموقف بادرتني قائلة (مازلتُ أحب اليمنيين، اليمنيون طيبون والقليل فقط هم السيئون وهم من قتلوا جو).
كنتُ اقرب حينها من تقبيل رأسها وهي تبتسم بوجهي ، ومابرحت تردد (جو عند الله جو بالجنة هكذا أخبرت ابني حينما سألني أين والده ومازال مُصراً على أنه في عمله ) ..
جانيل سافرت منذ أيام بجثة زوجها بعد أن صعب عليها لملمة أغراضه ورؤية جسده عدا عيناه اللتان لم يغطيهما القطن المنتشر على جسده ..
لم استطع سؤالها هل ستعودين مره أخرى كما تعودت سؤالها في كل مره تغادر اليمن فهناك شعوراً جمح قوى الحروف على لساني ..
كل ما يدور بُخلدي الآن أنها غادرت ليمن وبحوزتها حقائب ذكريات جميلة لطالما حدثتني عنها من ضمنها حقيبة سوداء لا أظن أنها ستُمحى من شريط الذاكرة ..
الإنسانية حينما تُقتل تختفي ملامح الحياة وتبدو نواجذ الشر وهذا ما شعرتُ به عبر جانيل التي غادرت اليمن إلى غير رجعه.
أحلام المقالح
حينما تُقتل الإنسانية!! 1819