مع قيام الدولة الحديثة التي أُسِّست على سيادة القانون ومبدأ المواطنة وما يقتضيه من ضمان كافة الحقوق المدنية لجميع المواطنين، بلا فارق بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، تصاعدت وتيرة سياسات التمييز الطائفي التي تفرق بين المواطنين على أساس الاختلاف في الطائفة والمذهب، للهروب مما تفرضه الدولة الحديثة من استحقاقات.. وهكذا ثمة تزامن وترابط ينبغي أن يُلحظ بين صعود حركات الإسلام السياسي وتنامي المطالب الإصلاحية، وبين تضخم ظاهرة الطائفية كمشكلة تتصل بالاجتماع السياسي، والتي امتدت رقعتها أفقيًّا في الأنظمة الحاكمة على العالم العربي والإسلامي، وعموديًّا حيث تغلغلت في كل الأجهزة الحكومية التابعة لها.
ومع تداخل العنصرين السياسي والديني وترابط المصالح السياسية بالدينية والعكس، أضحى التمييز والصراع بناءً على معيار الطائفية العنوان الأبرز لتوصيف المشهد السياسي والديني في الواقع العربي والإسلامي المعاصر، وهكذا تدخلت الطائفية بما تمثل من قدرة على الاستقطاب والتفريق في صياغة محاور الصراع السياسي الإقليمي بحسب ما يخدم أجندات دولية وإقليمية خاصة. تلك هي الحقيقة التي نعيشها اليوم والتي أقل ما يقال عنها أنها تفتقر إلى آليات الثورة وذلك واضح فيما يحدث من القائمين على أمرها حتى الآن وأن ما يحدث ما هو إلا جزء من فوضى شبة خلاقة هدفها غربلة 30سنة فساد وندع الفساد يأكل بعضة بعضا ولا مانع من بعض الضحايا مثل المتواجدين في السجون والتي ستكون نهايتهم البراءة بحكم القانون ويخرجون أقوى مما دخلوه وكما قال مبارك وهذا ما أخشاه في محادثاته مع زعماء العالم بعد التنحي لسبب عدم تركه البلاد في أنه سيعود.
إن الثورة قد حققت شيئاً مثل إلغاء أمن الدولة في حين أنه من ضمن مخطط مبارك لفقد الأمن في حين أنه موجود ويعمل على عدم توفير الأمن كمخطط شامل ينفذ بإدارة وإشراف مبارك حتى الماسورة.. إن الفضل والولاء يجب أن يكون للشعب وليس للأشخاص ونجد أنفسنا في النهاية بدلاً من إسقاط النظام نجد أنفسنا وقد أسقطنا الدولة وعندها لن يكون لنا سوى الله.
الإعلام الحر: هو الإعلام الذي يخدم العامة، بعيداً عن المتاجرة بالمشاهد من قبل البرامج الرديئة التي تبثّ من أجل تأمين المشاهدين للدعايات.. إن الإعلام الذي يخدم العاّمة لا يقوم بتسلية المشاهدين ولا يلّبي طلباتهم المؤقتة، بل يتضمّن الموضوعية وعدم الانحياز و الاستمرارية بدون نواقص من أجل الجماهير والوطن، لكن يتوّجب هنا التفرية بين فكرة خدمة العّامة واحتكار العاّمة، فلأجل تقديم الخدمة بالشكل الصحيح، لا بدّ من خلق مؤسسات متخصصة بالقيام بذلك، لها نهجها الإستراتيجي المرسوم وها مبادئها الأساسية، بإمكانها أن تقاوم الجبهة المضاّدة بكلّ توّجهاتها سواء منها المعتمدة على العنف والشدّة أو المعتمدة على الليبرالية البحتة. على الحكومات تجاوز النظرة الناقصة للإعلام الذي يخدم العاّمة ورؤيتهم لها كأي عمل خيري تقدّمه الدولة للمواطنين مثل ( تنظيم الحدائق العاّمة أو حماية الآثار التاريخية...اإلخ)، أمّا من أجل الأقلّيات فلا بدّ من تأمين برامج قيّمة من أجل تأمين المعرفة وتطوير الثقافة وتوفير إمكانية النقد ونقل التجارب وبالتالي العمل على تغييّر مفاهيم العاّمة وتجديدها باستمرار وإلى جانب كلّ ذلك يتوّجب كسب القوّة السياسية للجماهير وتوّخي الحذر في عدم سقوط الجماهير في وضع تخدم به الحكومات المستبدّة ولا القوى التي توّجه السوق وبالتالي توفير الحياة الديمقراطية لهم داخل نظام دولة تؤّمن قوانين تحمي حقوقهم، حينها بإمكاننا التحدّث عن نظام ديمقراطي يدع الجماهير ينظّمون نفسهم بنفسهم وباستقلالية تامة من خلال المؤسسات المدنية التي تخلّصت من قوقعة مؤسسات الدولة وتعتبر المؤسسات المدنية من أكثر المؤسسات الديمقراطية التي يتمكّن المواطن من خلالها أن يستهلك ويعيش ويحب ويصارع و يساوم من أجل مصالحه الخاّصة و بالتالي يتحرك بمسؤولية تجاه قضاياه.و الدولة الديمقراطية تكفل بتمويل مؤسسات الإعلام التي تخدم العاّمة ويشترط أن تكون هذه المؤسسات خارج طاعة الدولة و بذلك تكفل إقامة نظام إعلامي حّر ضمن نظام ديمقراطي حقيقي. أما السبب الرئيسي وربما الوحيد لهذه الأزمة كما يخيل إلي، فهو ارتباطه بأنظمة الحكم ارتباطاً رحمياً لا انفصام له بحيث تحول – وهو إعلام الدولة والشعب – إلى بوق يبشر بأيديولوجية النظام الدوغمائية وسوق يروج لمنجزاته وشاعر بلاط يتغزل بعبقرية قادته ونزاهة مسئوليه، الأمر الذي سد عليه المنافذ وأفقده شيئاً فشيئاً انتباه وعناية وثقة الجزء الأعظم من الأغلبية الصامتة. وعلى أساس التشابه البنيوي القائم بين أنظمة الاستبداد العربية - بوصفها جزراً معزولة - فقد تشابهت إلى درجة مضحكة طريقة معالجة وسائل الإعلام الرسمية لما يحدث على أرضها مؤخراً من حراك شعبي ناهض ومشروع إلى الحرية والديمقراطية والتغيير وهذا ما شهدناه على التوالي في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن وسوريا.
من المعروف عن جميع وسائل الإعلام الرسمي العربي في الدول المذكورة وغير المذكورة عجزها عن الفكاك من قيد السلطة أو النزوع فتراً واحداً نحو الاستقلال أو الحيادية، فهذا الإعلام لا يستطيع، حتى لو أراد، المغامرة باستضافة أحد أطراف المعارضة أو البث المباشر من قلب الحدث أو عرض شيء من التاريخ السابق للرئيس الحالي، ناهيك عن اتخاذ أية مبادرة بالتصوير حيثما كان دون الحصول على موافقة مسبقة من الجهات الأمنية الوصائية التي بدورها تتحرك وتقرر لا وفق مقتضيات المصلحة الشعبية والوطنية العامة ولكن وفق مشيئة الحاكم ومصلحة النظام وتعليمات راسمي سياسته من مثقفي التطبيل ومحللي التزمير وجوقة " كل شيء على ما يرام ".
وكما رأينا جميعاً فقد استنسخت أجهزة الإعلام الرسمية في الدول المضطربة السياسات القديمة البالية ذاتها دشنتها بسياسة التجاهل وهذه السياسة الإسعافية قد تنجح ليس في قصر أمد الاضطرابات ولكن عند قصر أمدها وتثبت عطالتها وفشلها الذريع بمجرد أن تثبت المظاهرات والاحتجاجات استمراراً زمانياً وانتشاراً مكانياً تصعب السيطرة أو التعمية عليه وهذا ما حدث ويحدث عادةً. تأتي بعد ذلك سياسة اتهام الآخرين " عملاء الداخل وأعداء الخارج " في مواجهة الكثرة الكاثرة من الشعب المؤيد ولكن هذه أيضاً سرعان ما يثبت تهافتها حين تصطخب أمواج المعارضة على سواحل الموالاة ويجد الإعلام الرسمي نفسه مضطراً لرمي حجرته التكتيكية الثالثة وهي " لفق واتهم بالتلفيق " فيعمد إلى عرض ما يحدث أو عرض جزء منقوص منه بعد معالجته بتقنيات إخراجية تقرب الصورة أو تبعدها، ترفع الصوت أو تخفضه وبمرافقة تعليقات وتحليلات تحاول قدر الإمكان أن تبدو مقنعة وهي تمارس أقصى درجات الديماغوجيا، فتتمدح وطنية المشاهدين وتؤكد على الثقة في وعيهم وذكائهم وإخلاصهم للوطن وقيادته وهي حيلة بونابرتية قديمة يمكن التأثير بها دون شك على أطفال دون سن العاشرة لا فوقها! وفي الوقت ذاته تتهم وسائل الإعلام الأخرى بالكذب والتلفيق والتآمر على وحدة الوطن واستقراره الأسطوري من باب أن الهجوم أفضل وسائل الدفاع.
ومع أن الكيس الفطن من اتعظ بغيره لا بنفسه فقد اتبعت الفضائية السورية المقاومة الأسلوب الكلاسيكي المكرور ذاته الذي أثبت فشله مرتين على الأقل قبل ذلك وأعادت إنتاج مفردات غير لائقة لوصف المحتجين من أبناء الشعب، كوصفهم بالمسلحين والعصابات والمخربين والعملاء والدخلاء ودعاة الفتنة، مستعينة في نشر ذلك وتدعيمه بمن قدرها الله عليهم من دهاقنة محترفي السياسة من داخل البلاد أو المستوردين من خارجها من بعض إخوتنا اللبنانيين والفلسطينيين وسواهم، وتحولت غرفة الأخبار إلى " غرفة عمليات " يقودها ويتصدر واجهتها بعض المذيعين والمذيعات ممن لهم مواصفات خاصة آخرها الكفاءة ولنأخذ مثالاً على ذلك المذيع السوري المستعرب الأستاذ "علاء الدين الأيوبي"، نجم الفضائية السورية الجديد الذي عجمت السلطة عيدانها لمعالجة هذه الأزمة إعلامياً، فكان الأيوبي أفضل المعجومين لما يتمتع به من سحنة مدورة تنم عن الري والشبع وطلة متفائلة تنم عن الوضع السعيد وشعر مصبوغ ينم عن العمر المديد وبداهة حاضرة وفصاحة غامرة وولاء لا غبار عليه ولا ريب فيه لأولياء نعمته، يحاول هذا المذيع الوسيم طيلة ظهوره على الشاشة إظهار أكبر قدر من الثقة بالنفس ولذلك فهو لا يُرى إلا مبتسماً مستبشراً حتى وهو يناقش ويعرض أشد المواضيع إيلاماً للنفس ووخزاً للوجدان كسقوط شهداء أو إحراق ممتلكات عامة أو خاصة أو مشاهد لجرحى راقدين في المستشفيات بين الموت والحياة أو متناثرين كالجثث المشوهة في شوارع المدن، إنه أفضل من يحشو السؤال بالجواب – وهو الخطأ الأول الذي يتعلم طلبة الإعلام تجنبه - فتراه يسأل محاوره أسئلة المتعالم للعالم ثم ينصت إنصات المريد الغشيم للشيخ الحكيم ويستفسر ويستجوب ويستفهم فاغراً فيه مشنفاً أذنيه رافعاً حاجبيه وهو بالإجابة أدرى فلله درّه من رجل، احتل الأيوبي بمنظره الاستفزازي معظم ساعات البث المباشر وتحول إلى ضيف ثقيل على بيوت معظم السوريين المنقسمين بين من يفضل سماع الخبر من فضائيته الوطنية وحسب لإيمانه بصدقيتها وسياستها المقاومة والفاضحة للإعلام الغربي المتآمر وبين من لا يجد للفضائية السورية أية مصداقية خارج أحوال الطقس والبرامج الترفيهية، لكنه يبحث عن الأنس والتسلية والترفيه عن النفس من خلال الاستماع إلى مقامات الأيوبي وحكاياته ونوادره التي تشرح الصدر وترفع الغمة على عكس جميع القنوات الأخرى، لأنه كلما وقع حدث جديد في مدينة سورية فرك الشاطر "علاء الدين " مصباحه وخرج على النظارة بضيفٍ وطني عزيز من أحد ضباط المخابرات الحاليين أو السابقين وقد تحول بقدرة قادر إلى " محلل سياسي استراتيجي" ليباشر هو وضيفه محاورة ودية " تحت سقف الوطن " يتجاذبان فيها أطراف الرداء نحو وجهة واحدة، يتساءلان فيما بينهما بأسئلة معروفة الإجابة سلفاً ويتقاذفان بين بعضهما البعض بالعموميات والتفاصيل ما ظهر منها وما بطن ضمن مونولوج عجيب غريب ومتاهة لا باب لها يسميها صاحبنا الأيوبي حواراً سياسياً بين أبناء الوطن الواحد قاطعاً اللقاء الممتع بين الفينة والأخرى بتمثيلية قصيرة من قلب الحدث ولكن مثقوبة في نقطة ما وسريعة الافتضاح لعلة عدم الإتقان.
كاتب مصري خبير في القانون العام
د. عادل عامر
شهوة السلطة وحب الظهور في أجهزة الإعلام 2466