بعد أن كنا نلعن وزارة الكهرباء مع كل انطفاء؛ صرنا اليوم نشفق على القائمين على هذه الخدمة ووزيرها الدكتور/ صالح سميع الذي لم يحتمل أوضاعها، فأصابته نوبة دماغية مازال يعالج منها في الخارج.
فمن فرط الأعمال العبثية التخريبية لخطوط النقل الرابطة لعاصمة البلاد (صنعاء) بمحطة الطاقة الواقعة في عاصمة الحضارة والتاريخ (مأرب)؛ لمن نعد نكترث بساعات الظلمة والظلام بل صرنا "نلعن أبوها دولة" لم تستطع فرض سلطتها على جماعة بلاطجة وصعاليك وقطاع طرق، ونلعن أمها وحدة إذا ما كان حكامها وقادتها من على شاكلة الرئيس السابق وزبانيته وسدنته.
الوزارة تعلن الصباح عودة محطة مأرب 341ميجا إلى العمل وخلال ساعات يأتي النبأ المفزع بخروج المحطة عن الخدمة نتيجة لفعل تخريبي، يا الله ما أقبح صورتنا وفعلنا ! فلم نكتف بانتهاكنا للقوانين والأعراف الإنسانية والسماوية، إذ زدنا لها قيم وشيم البداوة والجاهلية التي لطالما ظلت باقية لدى نشامى القبيلة في اليمن وفي أفريقيا ومواطن الهنود الحُمر وأتباع الديلاما في التبت ووو.
لا أعلم ماهية الدافع لمثل هكذا عدوان همجي، لكنني مع ذلك أعد قطع الكهرباء أو الطريق أو الاتصال أو غيرها من الخدمات والممتلكات العامة والخاصة عدواناً بربرياً وهمجياً لا يقل شأن عن جرائم قتل المتظاهرين في الساحات والشوارع،نعم قتل النفس لا يضاهيه جرماً وعدواناً، ولكن قطع الكهرباء قتلاً لأطفال ونساء ومرضى وغذاء ودواء.
فإذا كانت طلقة الرصاص تفتك بحياة إنسان والقذيفة تهد بيتاً؛ فإن قطع التيار هلاك لمئات البشر وقتل وعبث وعدوان على ملايين اليمنيين وعلى حياتهم ومعيشتهم وتعليمهم واقتصادهم واستقرارهم ومعنوياتهم، فيكفي التأكيد هنا بأن 45 مواطناً ماتوا اختناقاً بسبب مولدات الكهرباء وهذا الرقم فقط المعلن من وزارة الداخلية وما خفي كان أعظم.
الكهرباء تعني الحياة، إنها الهواء الذي نستنشقه والماء الذي نشربه والغذاء الذي تهضمه عقولنا قبل بطوننا، إنها باختصار كل شيء في حياتنا، الغذاء والدواء ومكيف الهواء والضوء والهاتف والتليفزيون والكمبيوتر وووإلخ من الأدوات الحياتية الأساسية الدالة على انتمائنا لهذا العصر.
فهل قدر لأحدكم العيش ولو لساعة صيف في عدن أو الحديدة أو الحوطة أو سيئون من دون ثلاجة المطبخ ومروحة الهواء؟ هل تساءلتم يوماً عن مقدار الخسارة والضرر الناجمين عن قطع التيار الكهربائي؟.
مؤسسة الكهرباء قدرت خسارتها ب36مليار ريال وخلال الفترة فبراير – أكتوبر من العام المنصرم 16مليار تكبدتها الدولة كقيمة مبيعات للطاقة المفقودة بسبب توقف محطة مأرب، 12مليار ريال ديون الكهرباء لشركة النفط مقابل شراء مادة الديزل، 8 مليار ريال التزامات على الكهرباء لمنفعة المستثمرين البائعين لها الطاقة، يقابل هذه الخسارة مديونية كبيرة عند المستهلكين العازفين عن تسديد فواتيرهم نظراً لهذا الانقطاع المتكرر.
دعكم من الكلام عن طوكيو وباريس ولندن وبكين وغيرها من عواصم العالم التي لم تعرف الانطفاء مذ خمسة وثمانية عقود، لنتحدث عن حالنا الذي صار صنواناً للعبث والخراب، حقيقة لا أدري كيف يصير الإنسان عدوانياً وسادياً مستعذباً معاناة الآخرين وإلى درجة التأذي من نور الكهرباء؟.
الوطواط لا الإنسان؛ فلا حياة لهذا الكائن الغريب سوى في عتمة الظلام الموحشة.. أعجب وأستغرب كيف أن البشر أيضاً في هذه البلاد يضعون أنفسهم بمكان هذه المخلوقات الشاذة ؟ كيف صار هؤلاء عدوانيين وانتقاميين من ضوء النهار ومستأنسين جداً بحلكة الظلام ؟ كم هي الحروب والكوارث والصراعات والأزمات وكم هي المحن والويلات التي رزيت بها المجتمعات الإنسانية؟ في معظم التواريخ المؤلمة هلك البشر والديار والمدن وبقيت الخدمات الضرورية حية لم تمت، فالكهرباء والماء والمستشفى والمدرسة ودور العبادة وكل ما يمت بصلة للحياة اليومية يمثل الاعتداء عليهاً عيباً مشيناً يوصم فاعله بالعار والجرم الفادح ولو في وقت الحرب.
لا مقارنة بين الحرب والتخريب! لا وجه للشبه بين ضرب وتدمير الكهرباء عنوة ولمجرد تعذيب الآدمية وبين استهداف إضاءة أو هاتف أو جسر ولأهداف عسكرية لها ما يبررها، فحتى الحروب لها منطقها وأخلاقها وقوانينها، لكن المشكلة أننا نعيش مأساة مختلفة كلياً وجرائمها يندي لها الجبين، كأنه لا يكفي ما نكابده يومياً في سبيل أن نعيش فقط!، الصهيونية والفاشية والنازية لم تفعل مثل هذه الأعمال، فهذه غزة المحتلة المحاصرة منذ سنوات لم تمنع إسرائيل دخول الدواء إليها ولم تضرب محطتها الكهربائية عقاباً لحركتي حماس والجهاد، ألم أقل لكم أن ما يفعله هؤلاء بنا لهو أكبر وأعظم جريمة؟
صحيفة الوسط نشرت مؤخراً تقريراً سنوياً لوزارة الداخلية، إذ بلغ عدد جرائم التخريب لخطوط الضغط العالي 101 جريمة، 40 منها تم ضبطها فيما 69 مازالت فارة، أما المتهمون فعددهم 175 متهماً ضبط منهم 85 متهماً والبقية فارون من العدالة.
الشيء المخجل والمهين هو أن هنالك ما يشبه التباري والتنافس بين مأرب التي لم تعرف دولة أو نظاماً وبين محافظات مثل لحج وأبين اللتين لم تعرفا في تاريخهما انفلاتاً وفوضى كهذه، فمأرب تصدرت المشهد التخريبي بـ54 جريمة تخريب ومن ثم أبين بـ23 جريمة، ولحج ثالثاً بـ15 جريمة، فيما توزعت بقية المحافظات الست صنعاء وتعز والحديدة والمهرة وذمار على بقية الجرائم.
وإذا كانت مأرب المحافظة قد تصدرت الريادة، فإنها أيضاً ومن ناحية توزيع هذه الجرائم على المديريات حققت فيها مديريتا الوادي ومدغل المرتبتين الأولى والثانية و29 و23 جريمة، بينما حلت مديرية تبن في لحج ثالثاً بـ8 جرائم: العجيب أن تقرير الوزارة لم يشر كم هي جرائم التخريب الحاصلة لخطوط الضغط في جمهورية الحبيلين الشقيقة، صحيح أنها أقل حدة مقارنة بما يحدث بمأرب، لكنها وبالنسبة لسكان محافظة كاملة جريمة لا تغفر أو تنسى بمضي الزمن.
محمد علي محسن
تخريب الكهرباء عقاب جماعي 2624