روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه دعا غلاماً له، فلم يجبه، فدعاه ثانياً وثالثاً فرآه مضطجعاً، فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك، فتكاسلت، فقال: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
فالمرء الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب والسيئ الخلق أجنبي عند أهله، هكذا قال بعض السلف في الخلق.. وقال آخر: أبى الله لسيء الخلق التوبة لأنه لا يخرج من ذنب إلا دخل في ذنب آخر لسوء خلقه وقال احد الأخيار " الفضيل:" لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق، لأن الفاجر إذا حسن خلقه خف على الناس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه مقتوه.
وحكي أن بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً، فتبعه طامعاً في لحاقه حتى بعد عن عسكره، فنظر إلى راع تحت شجرة، فنزل عن فرسه ليبول، وقال للراعي: أحفظ على فرسي حتى أبول، فعمد الراعي إلى العنان وكان ملبساً ذهباً كثيراً، فاستغفل بهرام وأخرج سكيناً، فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه، فرفع بهرام نظره إليه، فرآه فغض بصره وأطرق برأسه إلى الأرض وأطال الجلوس حتى أخذ الرجل حاجته، ثم قام بهرام، فوضع يده على عينيه، وقال للراعي قدم إلي فرسي، فإنه قد دخل في عيني من ما في الريح، فلا أقدر على فتحهما، فقدمه إليه، فركب وسار إلى أن وصل إلى عسكره، فقال لصاحب مراكبه أن أطراف اللجام قد وهبتها، فلا تتهمن بها أحداً.
وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكرم ولد آدم على الله عز وجل أعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزلة عند الله، أتى بمفاتيح الدنيا فاختار ما عند الله تعالى، وكان يأكل على الأرض ويجلس على الأرض ويقول: " إنما أنا عبد أكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، ولا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وكان يأكل القثاء بالرطب ويقول: " برد هذا يطفئ حر هذا " ، قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وقد أثنى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم ".
وعنه صلى الله عليه وسلم: " ما شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق " ، وعنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه كن له، من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره لأهل بيته زيد له في عمره " ، ثم قال: " وحسن الخلق وكف الأذى يزيدان في الرزق. وقيل: " سوء الخلق يعدي لأنه يدعو إلى أن يقابل بمثله " ، وكتب الحسن بن علي إلى أخيه الحسين رضي الله عنهم في إعطائه الشعراء، فكتب إليه الحسين أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقي به العرض، فانظر إلى شرف أدبه، وحسن خلقه كيف ابتدأ كتابه فأنت أعلم مني، وكان بينه وبين أخيه كلام، فقيل له: ادخل على أخيك، فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما اثنين جرى بينهما كلام، فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر إلى الجنة، فبلغ ذلك الحسن، فجاءه عاجلاً رضي الله عنهما، وأنشد في المعنى:
وإني لألقى المرء أعلم أنه ... عدو وفي أحشائه الضغن كامن
فأمنحه بشراً فيرجع قلبه ... سليماً وقد ماتت لديه الضغائن
وذكر أن أنوشروان وضع الموائد للناس في يوم نوروز وجلس، ودخل وجوه أهل مملكته في الإيوان، فلما فرغوا من الطعام جاؤوا بالشراب وأحضرت الفواكه والمشموم في آنية الذهب والفضة، فلما رفعت آنية المجلس أخذ بعض من حضر جام ذهب وزنه ألف مثقال وخبأه تحت ثيابه وأنوشروان يراه، فلما فقده الشرابي صاح بصوت عال لا يخرجن أحد حتى يفتش، فقال كسرى: ولم؟ فأخبره بالقضية، فقال قد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه، فلا تفتش أحداً فأخذ الرجل الجام ومضى فكسره، وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وجدد له كسوة جميلة، فلما كان في مثل ذلك اليوم جلس الملك ودخل ذلك الرجل بتلك الحلية، فدعاه كسرى، وقال له: هذا من ذاك، فقبل الأرض، وقال: نعم أصلحك الله، وقال عبد الله بن طاهر كنا عند المأمون يوماً، فنادى بالخادم يا غلام، فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانياً، وصاح يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ولا يشرب كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام إلى كم يا غلام، فنكس المأمون رأسه طويلاً، فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إلي فقال: يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لنحسن أخلاق خدمنا.
إيمان سهيل
لا توبة للسيئ.. 1977