لا يولد المرء فاسداً ولا يكون فاسداً بمجرد أن يصدر قرار توظيفه أو تعيينه، فالفساد وأعمال الفساد عمل مؤسساتي يتطلب توافقاً أكثر من فرد للقيام به وربما أكثر من إدارة وأكثر من قسم وظيفي.. خذ على سبيل المثال التلاعب بحقوق الموظفين صورة من صور الفساد ويشترك فيها المسئول المباشر عن الموظفين والمسئول المالي وشؤون الموظفين، كما يشترك الساكتون في تفعيل لفساد وتحوله إلى أنموذج عمل وليس مجرد كبوة وهفوة وغلطة.. بيع سيارات المؤسسات العامة أليس فساداً؟ ألا يشترك فيه البائع والمشتري والجهة الرقابية وصولاً إلى قمة الهرم الوظيفي في الإدارة أو الوزارة أو المحافظة؟.. نهب المخازن أليس يشترك فيه مسئول المخازن ذلك الموظف البسيط؟؟.. إن الفساد عملية تشبه لعبة كرة القدم لا يرى المجتمع منها إلا صورة ناجزة هي صورة البطل أو الكابتن ويتناسون أولئك الجنود الذين انقطعت أنفاسهم على أرضية الملعب ليصل رأس حربة الفريق إلى تحقيق هدف.
الأمر الآخر مما يتناساه الناس ويغفلونه طريقة تعاملهم مع الفاسد هل هو ((رجال/ أحمر عين ذكي/ فتح الله عليه؟؟)) ثم إذا كان الفاسد صديقاً أو قريباً هل أنصحه؟ هل أبين له أنه فاسد وأن تصرفاته غير صحيحة؟ أم سأتولى ( متبرعاً) الدفاع عنه والتبرير له أنه تعلَّم من الآخرين؟؟. طيب يا أخي المفروض (( الذهب يبقى ذهب )) ما يتأثر بالصدأ والقاذورات حتى لو غمس أو سقط في المستنقع فإنه يحافظ على نفاسة معدنه؟؟ إذا أفسد الصديق أو القريب فغاية ما يتفوه به العاقل الحكيم أو يتصرف! أن يقول: الله يهديه، أما إذا تنامى إلى سمعك أن بعيداً عنك أو عن صداقتك قد أفسد الفساد الذي أفسده قريبك وصديقك وربما أقل منه أثراً وخطورة، فإنك لن تتورع حتى تتأكد، بل ستكيل التهم والشتائم وسيل من السباب المقذع بحق ذلكم الشخص وتطالب بتغييره برجل نزيه (( من أقاربك هذا كل ما في الأمر)). يا أخي الكذب كذب سواء أكان مني أم منك أو من أي شخص..لا، إذا صدر منك أو من غيرك فهو كذب ولؤم وخبث، أمَّا مني أو من صديقي فالله يهديه/ هو ما يقصد/ قصوا عليه/ زادوا عليه.
وهكذا يتولى الناس الدفاع عن الفساد وتصرفات الفاسدين ثم يئنون ويستصرخون السماء أن تصلح أحوالهم، والله تعالى يقول: (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)) ويقول عن الصلاح: (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) ويقول على لسان امرأة العزيز: (( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء))، ويقول: (( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)) وجعل الله تعالى جريمة فرعون (( القتل)) وهو لم يباشر القتل بيده بل بأمره وبرضاه وفي عهده، وجعل جنود فرعون شركاء معه في الجرم وفي العقوبة، وهم لم ينلهم من حظ الدنيا معشار معشار ما ناله فرعون وحاشيته. والذين ذبحوا الناقة لم يكونوا جميع القوم غير أن سكوتهم جعلهم في عداد الفاعلين، وشملهم العذاب مع الآخرين دون أي تخفيف.
إن المتأمل لواقع المجتمعات العربية ومنها اليمن يدرك في يسر وسهولة وجود نوع من الخصوصية بين الفقراء والأغنياء وهذا وإن كان أمراً طبيعياً إلا أنه لا يعني أن يكون على حساب راحة وخصوصيات الآخرين، فنوعية الصحة المُقَدَّمة للمسئولين راقية وبأغلى الأثمان؛ لأنها تتم في دول أخرى وبلا مبالاة بالأسعار والتكاليف، والتعليم المتدهور في المؤسسات المختلفة يقابله ابتعاث أبناء المتربعين على مقاليد الأمور (( للدراسة)) أو (( للصداقة والونسة واحتراف: دق القاع دقه)) في البلاد الغربية وغير الغربية، على حساب قيمة الكتاب المدرسي والمختبر الجامعي والقاعة الدراسية والتأهيل الجيد لجيل كامل من المجتمع، من هنا تتزايد في وضوح استغناء هؤلاء عن خدمات المدارس/ الجامعات العامة/ والمستشفيات العامة، ومن ثمَّ فإنَّ هذه الخدمات تكون عرضة للتدهور، لأنَّ القائمين عليها لم يلامسوا همومها أساساً، فهل نحتاج إلى منع المسئولين من السفر ومن استيراد المواطير الكهربائية، لنصل إلى علاج في الوطن، وكهرباء عامة؟؟ أما أننا نحتاج إلى إلغاء كافة الامتيازات الممنوحة لحفنة من المتنفذين على حساب أُمَّة فهذا واجب شرعي ووطني بل وعقلي يمليه العقل والمنطق أن تلغى منح المشتقات النفطية الممنوحة للمسئولين وأعوانهم والمشائخ وأقرانهم، أن تقطع هبات التغذية والعسكر بالجملة عنهم؛ لتعود إلى الجندي المرابط حقيقة في حر الشمس وزمهرير الشتاء أن يرفض أي تعيين يكون سببه امتيازاً شخصياً أو (( مداراة)) فقد تحولت المداراة إلى (( ممدارة)).
نأمل من حكومة الوفاق ومن الرئيس هادي (( إن كان في أيديهم شيء من مقاليد الحكم فأنا ما زلت على شك يقارب اليقين في ذلك)) أن يمنعوا سفر التجار والمسئولين للعلاج في الخارج ليتوجهوا راغمين إلى المستشفيات المحلية سواء منها التجارية الاستثمارية أو الرسمية؛ لعلهم يشعرون بمعاناة الناس، فترقَّ قلوبُهم ويسعون إلى إصلاح القطاع الصحي، كما نرجو من الدولة وجهاتها التنفيذية والرقابية منع استيراد مواطير الكهرباء ذات الجودة العالية، لأنه لا يشتريها إلا الميسورون والتجار ومن قبلهم المسئولون فلا يبالون إن تغاضوا عن إفساد الكهرباء ومعداتها، وهلمَّ جرّا، نأمل أن تمنع الحكومة وبقسوة من رفاهية المسئولين وأبناءهم ليدركوا مدى شظف العيش.
أقول هذا مع يقيني أنه يخالف العقل والمنطق، لكن هؤلاء أيضاً قد خالفوا العقل والمنطق والشرع وأفسدوا إلى درجة لا يتخيلها المرء وهذا الأمر ليس على إطلاقه فالخيرون موجودون ولكن ((الزبد)) هو الذي يطفو على السطح و(( الدخان)) هو الذي يرتفع وهو مؤذٍ للبيئة وللصحة.
وهنا لا أدري ما العلاقة بين الخلاف السياسي بين أيٍّ من جهات الاختلاف، وبين العبث بالمصالح العامة؟ ما الفائدة التي يجنيها المواطن والمجتمع حين يستهتر بالتعليم وبالغش التعليمي؟ وما نوع البطولة في هذا الميدان؟؟ أم أنهم يريدون إعادة اكتشاف اختراع الكهرباء والطريق والصحة؟؟ ونحوها؟؟ الأمر ليس إعادة اكتشاف بل يشبه من يريد أن ننسى أن الكهرباء قد اخترعت ووجدت، لنعود إلى استخدام ضوء القمر، كأننا نريد أن نتناسى اكتشاف العجلات لنعود إلى استخدام الزلاجات. لم أجد تفسيراً مقنعا لرواج المستشفيات الاستثمارية دون رقيب ولا حسيب ولا شكاوى رسمية والاكتفاء بالأنين فقط؟؟ هل من تفسير واضح ومقنع للإخلال بالسكينة العامة تنفيذاً لأجندة منتفعين؟ أين أبناء هؤلاء المنتفعون؟ أليسوا في الداخل/ والخارج يستثمرون ويلهون بأموالٍ هي مِلكٌ لهذا البلد؟؟ أرأيتم أيًّا من أبناء كبار السياسيين من أيّ اتجاه سياسي يقود احتجاجاً ويكون هو المتصدر للركلات والإساءات؟؟ أوجدتم أحداً منهم قد أتى إلى المدرسة أو المركز التعليمي والجامعي ليخرج ابنه لينضم في سلك المحتجين؟؟.
أيها السياسيون كفى ابتزازاً لواقع الناس المعيشي وكفى استثماراً لحالات التذمر والضيق!! و ينبغي على الجميع أن يتذكروا أنَّ الله تعالى حَكَمٌ عدل، ولا يرضى الظلم ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)).. فالأفكار على المدى الطويل تؤتي أكلها بطريقة لا يستطيع السياسي المحنك التنبؤ بها، فمن المؤكد على سبيل المثال أن الثورة الفرنسية لم تكن لتحدث دون وجود استياء واسع النطاق من نظام الحكم القديم، وكذلك ليس هناك ما هو حتمي في الطريقة التي يتدفق بها استياء الجماهير اليوم ليصب في مسار مصلحة محددة سلفاً.
إن العدد الهائل من المصالح الخاصة التي تدعمها رؤى وتصورات متنوعة ومختلفة يؤدي إلى سياسة (( فرق تسد)) التي لا يمكن أن يستفيد منها سوى هؤلاء الذين كانوا يستفيدون من الوضع السابق، وإن لم يمكنهم الإبقاء عليه فليستفيدوا من الوضع الراهن وهذا يعني محاولة كل طرف الاستفادة من خصوصيات تعامله مع المشاكل الخاصة على حساب التركيز على المشكلات التي تشترك فيها كل مكونات العمل السياسي والاجتماعي بل والمجتمع بأسره، ينبغي أن يتقبل المجتمع جميعه بأن مصالح الجميع لها القدر نفسه من الأهمية، وأنه لا يجوز التغاضي تلقائياً عن وجهات نظر الآخرين.
د. أمين عبدالله اليزيدي
الفساد مؤسسة والصلاح فردي في نشأته 1683