ما دام القويّ هو المسيطر على الضعيف، فله الحق في تحديد الخطأ من الصواب، و بيان اللذة من الألم للآخرين..
هل باتت نظرية المفكر "هربرت سبنسر" تبرهن معطياتها واقعياً في واقعنا العربي حيث عبثت الأنظمة الدكتاتورية بالشعوب على مدى عقود، والأقوى عند سبنسر هو الذي يفرض على الضعفاء ما هو الخير و ما هو الشر، بالإضافة إلى أنّه هو الوحيد الذي يعرف مكمن اللذة من عدمها..
ولعل ما يؤخذ على سبنسر هو أنـه يتصور الأقوى هو المسيطر على أخلاق البشر الضعفاء، لكن أحداث التاريخ أثبتت عكس هذه النظرة، فالخلق النابع من الملكة الفطرية لا يمكن تغييره، و هذا ما جعل الشعوب تثور على الملوك الباطشين بشعوبهم، حيث شهدت أوروبا الكثير من الثورات كالفرنسية وغيرها كما أثبتت ثورات الربيع أكذوبة نظرية "سنبسر" لأنّ الخلق الإنساني هو قابع في عمقه لا في أعماق الآخرين.
".. الإنسان كفرد متفرد عن غيره، يسعى إلى الوصول إلى لذته، و منها يُترجم سلوكه و صفاته دونما معزل عن أخلاقه".. هكذا فسّر سبنسر نظرته إلى الأخلاق و القيم، فالناس عند هذا الفيلسوف تحكمهم نوع من الديناميكية التي يحتمها الوجود، و الذي هو محاكاة للكامل، و ما الإنسان إلاّ فرداً من هذا الوجود، و الذي يهدف إلى الوصول إلى السعادة عبر اشباع اللذة، التي قد تأخذ أنواعاً مختلفة على حسب الظروف و المواقف في الحياة، فكان لكلّ إنسان طريقته في تقييم الحلول المختلفة، و من هنا نجد سبنسر قد ألغى مفاهيم الثبات، فالأخلاق عنده متحولة و متغيرة، و أقصى المثالية، فالقيم عنده عبارة عن سلوكات و صفات تساير المواقف و الوضعيات، و أعطى للخلق الإنساني نوعاً من الصلة مع الزمن و الوقت، باعتبار أنّ المكان و الزمان عاملان أساسيان في رصد خلق معيّن لفرد ما.
هذا كله استنتجه سبنسر من الآلية التي رآها تظهر في النظرية التطورية للبشر من الجانب البيولوجي و الجانب الاجتماعي، حيث يذهب الكاتب "مــــزوار محمد سعيد" إلى التحليل أنّ الأخلاق عند سبنسر هي نوع من الامتداد للمذهب الأبيقوري في العصر الهليني، فقد رأى سبنسر على سبيل المثال أنّ الإنسان لا يقوم بالجرائم لإضرارها بالغير، لكنه قد يلجأ إليها إن هو وقع في وضع لا ينجيه منه إلاّ الجرم.
ويرى محليون لفكر سبنسر أنّ العقل الإنساني كثيراً ما يصطدم بعدم منطقية المبادئ و أسسها في فكر هربرت سبنسر، خصوصاً في قوله: "البقاء للأقوى" فهو يرخص ضمنياً لقانون الغاب، و يلغي القوانين و العادات و الأعراف. لكننا سرعان ما نتنبه إلى أنّ الواقع يسير وفق هذه الطريقة البشعة في أحيان عديدة، فالأقوى عند سبنسر هو الذي يفرض على الضعفاء ما هو الخير و ما هو الشر، بالإضافة إلى أنّه هو الوحيد الذي يعرف مكمن اللذة من عدمها.
و بالتالي فالملك في الممالك المختلفة - حسب سبنسر - هو المخول لبيان سعادة الفرد القابع تحت سلطته فيعرفه على الخير، و لا يلزمه به، و هنا تظهر لنا مدى قيمة القيمة نفسها عند سبنسر، فما دام القويّ هو المسيطر على الضعيف، فله الحق في تحديد الخطأ من الصواب، و بيان اللذة من الألم للآخرين. فهذا يجعلها عامة حتى و لم تكن كذلك، أي أنها تترجم إلى سعادة في نظر القوي فتعمم بصورة خلقية صريحة على الضعفاء.
و لو عدنا إلى النظرية التطورية القائلة بالتطور المتوازي للمجتمعات و البيولوجي، فإنّ الأخلاق في نظر سبنسر هي خاضعة لآلية الاستطراد، تجعلها في معزل عن الظروف، أين يصبح الإنسان كالآلة المتحكم بها، و هذا ما تجاوزه التفكير البشري فيما بعد، فقد أراد النازيون صنع آلات بشرية للتدمير لا غير، إلاّ أنهم فشلوا ليقظة الضمير الذي لا يمكن التحكم فيه، فالقويّ قد يتحكم في أمور عديدة إلاّ أنّه لا يمكنه أن يتحكم في الخلق الفطري النابع من الضمير كما جاء عند كانط في كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق"
إيمان سهيل
الربيع العربي وأكذوبة "سبنسر" 1991