تتدرج الأحكام والوصايا في سورة البقرة بنسقٍ سلس وبسيط يدخل القلوب ويسكن العقول دون عناء، متخذاً من موقف بني إسرائيل من وحدانية الله والإيمان برسله طريقاً لإيصال غاية محدودة واضحة تصور الجنة والنار أمام قضية إيمان وقصة كفر يأبى أكثر الناس استيعابها كما ينبغي.. كل العروض السماوية بنعمها الإلهية قدمها الله لبني إسرائيل على طبقٍ من ذهب عبر رسُل لم يجدوا من أقوامهم إلا كل جحود وعصيان، حرصوا على الحياة، وعادوا رسل الله وجاهروهم بالعداوة، واتبعوا ما تتلوا الشياطين وكانوا يرون في أنفسهم قدرة على تسيير الحياة وفق ما تشتهي أنفسهم وهاهم يتبدلون الكفر بالإيمان ويرون أن الجنة من نصيبهم جهلاً وإلحاداً وكبراً.
يستمر نسق الآيات واضحاً جلياً في تصوير وجهة الحق وأن الله موجود إينما يولي الإنسان وجهته، وجودهُ أزلي وعلمه سابق ولكنه لرحمته بعباده يمنحهم الفرصة تلو الأخرى لعلهم يرشدون ويجتنبون طريق الجهالة الذي يؤدي إلى النار.
الإبداع القرآني في سورة البقرة مذهل جداً لدرجة تدعوني لتكرار الآيات مراراً وأنا أتأمل تلك القصص والأحكام والأوامر والنواهي التي تتجدد مرّةً بعد مرّة بعيداً عن التكرار الذي قد يُشعر الإنسان بالملل.
قصة بناء الكعبة، تسبقها هاروت وماروت، تتلوها قضية الوسطية التي مّيزت هذه الأمة المحمدية عن سواها من الأمم.
باقة مواعظ وحزمة حكم وأمثال يضربها ملك الملوك لهذا الإنسان الذي يتجاهل قدرة خالقه ويهمش إنسانيته ويعيش بهيمياً بتمجيد غرائزه.
أمور محرمة وأخرى يحبها الله منطوقة بلغة قرآنية بديعة، تحلل الطيب وتحرّم الخبيث حتى تصل إلى نتيجة عرض مؤثرة لا تهدف إلا إلى إخراج هذا الإنسان من ظلمة إلى نور، ومن ضلال إلى هداية، ومن خوف إلى أمن، ومن حرب إلى سلام روحي عظيم.
سورة البقرة كتاب أحكام وآياتها محكمة أختام وحروفها دمغة إنصاف وإحسان.. نجد ذلك جلياً في أحكام القتل والصيام وأموال الناس والحج والجهاد والإنفاق في سيبل الله والطلاق والإرضاع والنفقة وشرب الخمر ولعب القمار وحق الأيتام على من حولهم من أفراد المجتمع، أحكام المحيض والإيمان التي يطلقها لسان المرء دون عقال، وخطبة النساء والصلوات المكتوبة.. سياق اجتماعي ديني يسوق أعدل أحكام السماء التي لم تطبق معظم البشرية منها شيئاً يُذكر!.
قصة طالوت بسياقها البديع وتلك الآية التي تهز وجداني كلما قرأتها (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة... آية 248).. تخيلوا معي ذلك التابوت، ما شكله؟ ما لون السكينة؟ وما هي البقية التي تركها آل موسى وآل هارون؟! ما شكل أولئك الملائكة الذين يحملون هذا التابوت؟.
يا الله عالم روحاني فريد، فما أعظم هذا القرآن الكريم وما ألذّ آياته!.
يبدأ الجزء الثالث من السورة بقصة إبراهيم وقلبه الذي يريد أن يطمئن للإيمان، بعد أن انتهى الجزء الثاني من السورة بقصة طالوت وجالوت وبدأ بقصة من حاج إبراهيم في ربه، ثم تبدأ آيات فضل الإنفاق وأحكام الربا وتأتي بعدها أطول آية في القرآن الكريم، آية الدين "بفتح الدال" موضحة كل تفاصيل المعاملة بين الدائن والمدين، ثم تختتم السورة بآية عظيمة من آيات حفظ الإنسان حتى حُث على قراءها صباحاً ومساءً كواحدة من الأذكار العظيمة للحفظ.
ألطاف الأهدل
دروس إيمانية من سورة البقرة (2) 2614