في رقعة الشطرنج الجندي وحده لا يمكن أن يتراجع للخلف أو ينسحب ويتقهقر وهذا الأمر معروف، لأن جميع عناصر القوة موجودون ابتداءً من رأس الهرم (الملك) لأدنى مستويات عناصر (اللعبة) المعركة.
والأمر نفسه يسري على ميدان أي حرب إلا في معارك الجيش اليمني، وساحة دوفس الدليل، حيث كان الليل طويل والفجر حزين ودامي، حيث كانت خناجر المتربصين خبثا من اتجاه البحر، وقلوب (البائعين) تترقب من بعيد لتشرب نخب الخيانة من مسافة تحدد دائما للجبناء، في فجر دوفس حيث كانت خيوط شروق الشمس تزداد احمرارا وحسرة في معركة كان للخيانة متسع من الوقت للتجول على أجساد العشرات وبدم بارد وبتواطؤ مباشر أو غير مباشر ليتمكن دراكولا من العبث بدماء جنود هم أصلا من أشجع جنود الأرض بشهادة الكثيرين لولاء الغدر وخيبة قيادة قدمتهم أهداف سهلة لعدو لا يرحم.
يصعب على أي فرد أن يفسر ما جرى بسهولة في ذلك الفجر الدامي بين طرفين يفترض أن يكونا غير متكافئين بالعدة والعتاد، إلا من شاهد هؤلاء الجنود (القرابين)، لقد كانوا في وسط يقتلهم ألف مرة قبل الواقعة وإثناءها ومن (نيران شقيقة)، وربما يقتلهم بعدها وهم جثث وجرحى وأسرى، ابتداء من سؤ التغذية الواضحة على هيئاتهم إلى نوعية التدريب والتسليح ناهيك عن الجاهزية القتالية البائسة (بحسب أقوال الناجين من المذبحة)، حيث لا احد يستطيع إقناعنا بان الجندي المهزوم (داخلياً وخارجياً) يستطيع أن يقاوم وينتصر، ابتداء من الجاهزية، مروراً بالتغذية ومستوى معيشته وأسرته إلى الرعاية اللاحقة، ناهيك عن الجوانب النفسية التي لازالت وصمة اجتماعية لم نستطع التخلص منها في حياتنا العامة فما بالكم بالمجال العسكري.
ولسبب بسيط فالجندي المهزوم (داخلياً) من السهل هزيمته والتفوق عليه بسهولة فكيف إذا كان الحديث أيضاً عن خيانة؟.
ليس من باب المقارنة عندما نقول بأن تكلفة البدلة العسكرية لجندي إسرائيلي تقارب ثلاثة آلاف دولار وقس عليها بقية الجوانب الأخرى وعلى بقية جيوش العالم، لن أتحدث عن البدلة العسكرية للجندي اليمني في ساحات القتال لأنني اشك إنها تساوي شيء على الأقل عند الجندي نفسه لا مادياً ولا معنوياً ولا حتى من الناحية الرمزية وهنا الحديث عن مربط الفرس للانهزام (العقيدة والولاء الوطني)، حيث ليس بالسلاح وحده يستطيع المرء أن يحرر بقعة أو يحافظ على أرض أو حتى ينجو بجلده، دون أن تكون العقيدة العسكرية حاضرة والولاء الوطني مغروساً.
وهذا ما كان عليه في (بيعة) دوفس ستشكل لجان وستدفن الجثث وسيبقى السؤال مشروعاً: أي سلطة هذه منتجة للفشل حتى حين يتوفر عناصر للنجاح وفي أمور مصيرية متعلقة بالروح والأرض؟.. أي قيادة هذه تركت أفرادها تباغت وتذبح على موائد البيع بالجملة في مشهد دموي دون محاسبة؟، وأي نظام هذا يتجرع الهزيمة تلو الهزيمة ولا يزال يجادل في أهمية هيكلة جيشه وتوحيد ولائه وتعزيز عقيدته؟.. لقد تأخرنا كثيراً في ذلك، كان يمكن أن نحفظ دماء زكية وأرواحاً طاهرة، حيث كان يفترض ذلك منذ زمن حينما تذوقنا نفس الهزيمة في جزر حنيش أمام دولة ناشئة.
وحدث ما حدث ومن حقنا اليوم أن نسأل عن أي عقلية سلطة تتعامل مع أفراد ألوية عسكرية تواجه القاعدة وأنصار الشريعة كأنهم أبناء (السودة) كما يقول اليمنيون؟.
أجزم بأن المجرم الحقيقي في هذه المذبحة ليس أفراد أنصار الشريعة أو القاعدة فحسب، ولكن المجرم الأكبر هم من تساهلوا وتواطؤاً على حساب هؤلاء العسكر الذي يفتقرون لشروط القوة للقيام بواجبهم كجيش مثل جيوش العالم.
أعجب كثيراً عندما نسمع أن كثيراً من هؤلاء الجنود قتلوا بسبب نفاذ ذخائرهم، حيث كان مخصصاً لكل جندي فقط ثلاثون طلقة بحسب كلام أحد الناجين، مع العلم أن الكلام هنا عن جند هم في حالة حرب وأمام عدو لا يمتلك أسلحة متطورة ولكن يمتلك عقيدة قتالية عالية، هذا ما لم يمتلكه جندي مغلوب على أمره كل شيء ضده بما فيه من يفترض يكون القدوة والنموذج في العقيدة والولاء، ولكن كيف يكون القدوة بعض من لا يزال يشارك أفراده حتى رواتبهم الحقيرة أو تغذيتهم الهزيلة؟، وكيف تستطيع إقناع فرد بالولاء والتضحية وهو يرى ولاء القائد لشخص وحزب أو قبيلة، والوطن مجرد بقرة حلوب ليس إلا؟.. لذلك بقيت العقيدة والولاء هما الغائبان في دوفس فجر ذاك اليوم الدامي، وبقيت رقعة الشطرنج في دوفس خالية إلا من محرك مجهول وجند لا حول لهم ولا قوة، حيث لم يتبق أمام المجرم إلا أن يطلق رصاصة الرحمة على جندي كاد أن يكون مقتولاً.
فؤاد عبد القوي مرشد
فجر دوفس.. نيران شقيقة 1858