لم يكن بمقدور الرئيس صالح أن يتنحى من منصبه هذا ويسلم السلطة لأي طرف أو خلف بعده دون الحاجة لثورة كتلك التي أطاحت ببن علي في تونس ثم بمبارك في مصر ومن بعدهما القذافي في ليبيا وأخيراً أطاحت به خلال عام من اندلاعها هنا في اليمن بعدما تعثرت كل السبل والمحاولات السياسية والوطنية التي بذلت على هذا الطريق فكان مصيرها الفشل والخيبة, ليس فقط لأن الأمر يتعلق برغبة الرئيس وأهله وأفراد عائلته وموقفهم الرافض للتنحي وتسليم السلطة لمن هو أجدر بها منه، فلو كان الأمر يقتصر على رغبة هؤلاء وحدهم وكفى لهان الطريق لإقناعهم بذلك بكل يسر ومنذ الوهلة الأولى دون أن نضطر لدفع الثمن الباهض الذي دفعناه حتى الآن من دمائنا وأرواحنا ونفوسنا وأموالنا وأمننا ووحدتنا الوطنية فضلاً عن كثير من التضحيات الجسيمة التي قدمناها خلال عام من خروجنا إلى ميادين وساحات النضال السلمي في ثورة شعبية لم تستثنِ مدينة أو محافظة لتحقيق ذلك..
غير أن المصيبة قد تجاوزت رغبة الرئيس وأفراد عائلته لتشمل في امتدادها التاريخي والسياسي والاجتماعي شبكة واسعة وعريضة من المفسدين والمستبدين من أصحاب وعصابات المصالح الضيقة في النظام وخارجه والتابعين له والمستفيدين منه كلا بحسب قربه من المركز الذي ظلوا يدورون في فلكه كل هذه السنوات فاحكموا قبضتهم عليه وتوغلوا بنفوذهم فيه للسيطرة على كل مفاصل السلطة ورواسي النظام ومراكز القوة والقرار ومنابع المال والثروة ونجحوا في انتزاع صولجان الحكم من يد الرئيس مستفيدين من غباءه الثقافي وجهله التعليمي وقلة مداركه وخبراته السياسية الأمر الذي جعله يلقي بثقته فيهم ويحتمي بهم منهم وممن يتربصون به ويعتمد عليهم في إدارة شؤون الحكم وتصريف أمور الدولة...وينطبق هذا الوضع على بقية الدول العربية التي قامت فيها ثورات الربيع العربي وتلك التي مازالت قائمة فيها كسوريا...
ولنمعن النظر هنا في دور هذه البطانة في تعفن الأوضاع وشل كل آليات التصحيح لو وجدت، وقد تكونت بمفعول قانون مضاد لقانون الطبيعة الأول وهو تصفية الأكفأ في صراع الحياة، فالطاغية لا يستطيع أن يقبل حوله منافسين أو معاونين لهم شخصية يمكن أن تلقي بظلالها عليه، ومن ثمة سياسته في التخلص من الأكفاء وإحاطة نفسه بكل من هو خانع وتافه وضعيف.. هكذا تمتلئ أعلى دوائر قرار تتحكم في مصير مجتمع بأكمله بضعاف النفوس والشخصية وكلهم في سكرة من أمرهم لوصولهم إلى مراكز ما كانوا يحلمون بها لو كانوا في نظام سياسي طبيعي، هذه ''الردائقراطية '' هي التي ستحجب عن الدكتاتور الواقع وتغذي هذيانه، هي التي ستزين له ما تطمح نفسه لسماعه، أي أن كل الصعوبات التي يواجهها ناجمة عن العمل التخريبي لشواذ يكرهون الزعيم الأوحد، لأن ''كل ذي نعمة محسود''، هي التي ستسكت أمام القرارات الهوجاء التي تدرك خطرها، هي التي ستنفذها رغم ذلك لأن ولائها لبطونها وليس لمجتمع أصبحوا بالنسبة إليه مثل خلايا السرطان بالنسبة لجسم عليل.. وفي هذه الوضعية ترى رعايا الدولة الاستبدادية كركاب باخرة تتقاذفها العواصف وهم بين يدي ربان معتوه أو جاهل أو غبي وبحارة تبدأ مهارتهم وتنتهي عند تقديم الخمر والأفيون والمنشطات للربان. يدخل الاستبداد آنذاك في حلقة مفرغة لا تنتهي إلا عندما يخرب التسلط المطلق من عقاله كل مقومات حياة المجتمع والدولة.
ولعل الحظ في الوصول للسلطة وممارستها كان على مر التاريخ من نصيب المعتوهين والمتهورين واللصوص والمجانين مثلما كان أيضاً من نصيب الأنبياء والدعاة وكثيراً من أهل الرشد والحكمة الأفذاذ.
وإذا كان ثمة درس ينبغي أن نتعلمه من التجارب التاريخية لممارسة السلطة في كل بقاع المعمورة فإنه يتمثل في المحصول النهائي لهذه الممارسة ومستوى النجاح الذي حققته للشعوب ولا يتمثل في الممارسة ذاتها, ويمكن قياس مستوى هذا النجاح بأحد المؤشرين التاليين أو كلاهما، أما الأول وهو موضوعي جماعي صرف ويتحدد في تشغيل مؤسسات وسياسات تراكم وتبني وتعمق مكتسبات الإنسان وتدفعه إلى الأمام..بعكس الفاشلة كتلك التي تصول وتجول في بلدنا وبقية البلدان العربية، فهي سلطة تخرب وتدمر وتضلل وتجهل وتمنع الإنسان والمجتمع من الإبداع وتفعيل دوره وإنتاج أحسن ما فيه..
أما المؤشر الثاني فهو ذاتي ويتمثل في المحبة التي ينالها المسؤول دون تكلف والاحترام الذي يحظى به لدى الجميع دون أكراه وان يبقى له ذكر بين الناس واسم يفاخر بحمله الأطفال والأحفاد.
غير أن العصابات التي ظلت تحكمنا وتتحكم في رقابنا على الدوام تفتقر تماماً إلى تلك القيم..فهي تسرق وتنهب وتضلل وتقمع وتزور وتكذب تحت الأضواء الكاشفة، ولا ادري أي لذة يجدون في غداء فاخر ولكنه ملوث بالظلم ودماء الفقراء وأي منفعة يستمدون من نفوذهم وهم أول وأكثر من يعلم بزيف ما يحف بهم من بهرجة وتبجيل ونفاق..والمضحك المبكي في الأمر أن الناس لا يبحثون عن الشهرة والجاه والمال والسلطة لا ليحصدوا التكريم ومحبة الآخرين لهم والمكانة الرفيعة في قلوبهم والصيت الحسن بعد رحيلهم أما هؤلاء الناس فلم يجنوا من وراء ما نالوه من السلطة والثروة والشهرة التي وصلوا إليها بطريق أو بآخر سوى كره المجتمع ومقته لهم واحتقاره الغاضب ولعنته عليهم ناهيك عن سخرية الأجانب وهزئهم بهم ونحن معهم....
وكلما أفاقوا من سباتهم العميق في الفشل سارعوا إلى إقامة مهرجانات تزييف الحب وكرنفالات تلميع الصور واحتفالات شراء القلوب والمتاجرة في القيم والعواطف الشعبية واستعراض البطولات العدمية واختلاق أعداء وهميين وافتعال الإجماع فلا يزيدون الا خسارا.
بالمسكنة المساكين إنهم في نهاية المطاف غير جديرين إلا بالرثا...فلو أمعنا النظر في الهيئة الحقيقية والبالغة الصعوبة والتعقيد للمستبدين وبطاناتهم لشعرنا تجاههم بالشفقة...فهذه الدكتاتوريات الفاسدة في حالة تسمم متقدم بمخدر اسمه السلطة ومن إعراضه الهوس الخارق بها والبحث الدائم عن مزيد من المتعة وان على حساب سعادة الأمة كلها واستحالة الانقطاع عن هذا السم إلا بعد التفريط في كرامتهم وكرامة شعوبهم..لكن وراء حالة التوحش الظاهرية هذه التي تسمح لهم بالتمتع مؤقتاً بأقصى قدر من الحرية والامتيازات تقابلها حالة أخرى هم فيها كقطع الشطرنج بين يدي لاعب سمه القدر أو روح المجتمع أو سمه ما شئت من الأسماء..
ولكم شهد التاريخ من هؤلاء المساكين الذين لقوا حتفهم في أفظع الظروف بعد حياة كاملة قضوها يرتعشون من الرعب في أقفاصهم الذهبية لا يكحل النوم الهانئ جفونهم، كم من قرابين وقع التضحية بهم بعد أن تجاوزوا حداً معيناً من البطش والفساد.. ولماذا هذا؟ لأن القوى التي تقود حركة المجتمع وأساساً قوى الفساد أو العصابات الفاسدة لا تغفل أبداً عن مراقبة المستبد مقيمة ثمن ومردود '' الخدمات'' التي يقدمونها. ويوم يصبح المستبد بشططه وغلوه وتجاوز الحدود في القمع واستخلاص ثمن خدماته، أكبر عنصر يهدد ما وضع في مركزه للحفاظ عليه، فإن ساعة النحر تكون قد دقّت، إذ لا يوجد فرد أو مجموعة تقدر على فرض إرادتها نهائيا على مجتمع كامل وظروف موضوعية وقوانين سرمدية. معنى هذا أن الدكتاتور رغم كل ما يتسبب فيه من مآسي أول ضحية لنظامه هو يعيش في رعب دائم رغم تسممه بالمخدر الخطير أو قل أنه لا يكثر من المخدر إلا للتغطية على رعبه الدائم. ينتهي كابوسه يوماً بالخلع أو بالقتل.. لكن يقع المسارعة إلى'' مسكين'' جديد يفوض لنفس المهمة المستحيلة لأن المجتمع المتخلف عاجز عن التعامل مع مشاكله بطول النفس والحكمة والعمق الذي يتطلبه مستوى تعقيد هذه المشاكل.. من يدري ربما يفهم الطامحون لدور المنقذ(على الأقل أذكاهم وأقلهم مرضا) أنهم مجرد قرابين للنحر بعد تخديرهم بمخدر السلطة....أنهم مبرمجون للذبح في خدمة قضية مخسورة مسبقا...إن أكبر ضحية للاستبداد في آخر المطاف هو المستبد ذاته ومن غامر بالدوران في فلكه...
إن في التعاطي العادي مع ظاهرة الاستبداد مبني على كره الاستبداد واحتقار المستبد، أما الكره فسببه ما يظهره مثل هذا النظام من فظاعة وظلمة مجية وقسوة ووحشية ولامبالاة بمعاناة البشر، أما الاحتقار فمحركه ما يلحق دوماً بالمستبد من تزييف وكذب وفساد و إرهاب وإذلال، لكن الحقد والاحتقار في آخر المطاف مواقف تلوث الذات الشاعرة بها قبل الذات التي تتوجه إليها، والأخطر من هذا أنها كالضباب الذي يتجمع فوق النظارات فيمنع من الرؤية. لا بد من مسحه دوريا ولما ينقشع ويفرض العقل الصمت على الغضب والاستنكار تتضح حقائق وبديهياتغيبتها العواطف منها ما لا نحب الاعتراف بها ومن أهمها :- إن الشعب لا يستورد المستدّ من المريخ ولم يفرضه عليه مجتمع يريد به شراً، هو منه وإليه، بل ويعبر أحياناً عن الحس والتصرف العام أكثر ما يعبر عنها المعارض الديمقراطي، لا يجبأن يغيب عنا لحظة كما رأينا أن النظام السياسي يغرس جذوره في النظام العائلي... إن الدكتاتور ليس إلا الأب البدوي بغطرسته وتجبره بقية أفراد الأسرة، لكن بدون المحبة والتفاني. أليس صحيحا أن هناك مستبداً ينام داخل كل واحد منا لذلك ترى التداول على الاستبداد لا إلغاءه هو خاصية تاريخنا وظاهرة أو نزعة عربية بامتياز؟.. لا زالت الأغلبية 'ترجو الخلاص بغاشم من غاشم وسيتواصل الأمر طالما بقي المجتمع العربي متشبعاً بمفهوم متجذر في ثقافتنا هو المستبد العادل، أو مؤمن بمقولة (إن المساواة في الظلم عدل) إنه مفهوم بغرابة الذكر الأنثى والبارد الحار، لأن المستبد لا يكون عادلاً والعادل لا يكون مستبداً، هذا المفهوم قنبلة موقوتة داخل حضارتنا ولا بد من تعريته حتى نستأصله من عقول بشر صنعتهم قرون من الاستبداد يترجون الخلاص على يدي سيد عادل يعاملهم برفق ورأفة وقد استبطنوا عقلية وسلوكيات حيوانات الرعي فأصبحوا رعية وسيدهم الراعي.
وفي الأخير: إن طول قبول الجسم الاجتماعي بالمستبد ليس دوماً بسبب الخوف وإنما أيضاً بسبب الطمع واللامبالاة وحتى التواطؤ، وهذه ليست خصائص البطانة التي تحيط بالسلطان فحسب، هي أيضاً خصائص قطاعات تتسع وتضيق من الشعب، ترضى بالاستبداد وتدعمه طالما وجدت فيه أضيق مصلحة، لا يهمها محتشدات أو تعذيب، هذه القطاعات هي التي تختزل خديعتها وسوء تقييمها للأرباح والخسائر..
حافظ الشجيفي
أصل النزعة العربية للاستبداد 2078